رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

اختبار الإنسانية في فورة الغضب


تكشف اللحظات والمواقف الصعبة في حياتنا أصالتنا وطبيعة تربيتنا. كما تحدد الطريقة التي نتعامل بها مع الحدث هويتنا الإنسانية والتزامنا الأخلاقي. زادت جرائم القتل في مصر بين الأهل والأصدقاء والجيران، وبات القتل إما بسبب الانتقام أو الغيرة أو خلاف بسيط، أو لعدم قدرة القاتل على كبح غضبه، وكأننا لم نكتفِ من إراقة دماء ضحايا جماعات الإرهاب، وتدمير سنوات "الربيع العربي".


راقتني قصة رائعة حدثت فصولها إبان الحرب العالمية الثانية عن وجوب السيطرة على الغضب، ومكاسب صاحبه من ذلك.. وجاء فيها:

"وقف "جان" في محطة القطار مزهوا ببدلته العسكرية الأنيقة، وراح يراقب وجوه الركاب وهم ينحدرون من القطار تباعا. كان يبحث عن المرأة التي أحبها دون أن يراها.. أبلغته بأنها ستعلق وردة حمراء على صدرها حتى يميزها بين مئات ركاب القطار. بدأت معرفة "جان" بمن أحب قبل هذا اليوم بأكثر من عام في مكتبة "فلوريدا" العامة، حين اختار كتابا وراح يقلب صفحاته، فلم يجذبه محتوى الكتاب قدر الملاحظات المدونة بقلم رصاص على هوامش الصفحات، إذ أدرك أن كاتبها مرهف الحس، دمث الخلق، وغمرته الفرحة عندما وجد اسمها مدونا على الصفحة الأولى، لأنها أهدت الكتاب إلى المكتبة.

ذهب "جان" إلى البيت وبحث عن عنوانها في الدليل حتى عثر عليه، راسلها وزادت علاقتهما دفئًا عبر الرسائل. خلال تلك الفترة استدعي "جان" إلى الخدمة العسكرية، وغادر أمريكا للالتحاق بقاعدة عسكرية مشاركة في الحرب العالمية الثانية. وبعد غياب دام عاما عاد إلى مدينته، واستأنف علاقته بمن أحب، واكتشف من رسائلها أنها في مقتبل العمر، وتوقع أن تكون رائعة الحسن، إلى أن طلب لقائها للتعرف عليها عن قرب، وفي الوقت المحدد ذهب إلى محطة القطار، ووقف يمعن النظر في الوجوه.. لمحها قادمة نحوه بقامتها النحيلة وشعرها الأشقر الجميل، فقال في نفسه "هي كما تخيلتها.. ما أجملها".

تسارعت دقات قلبه، لكنه استجمع قواه واقترب خطوات باتجاهها مبتسما وملوحا بيده.. لكنها مرت بجانبه وتجاوزته دون أن تلتفت إليه أو تعره اهتماما. ولاحظ خلفها مباشرة امرأة كبيرة في العمر وضعت وردة حمراء على صدرها.. تماما مثلما اتفق مع حبيبته. شعر "جان" بخيبة أمل وتملكه الغضب، وقال لنفسه "يا إلهي لقد أخطأت التقدير.. توقعت أن تكون الشابة الجميلة التي تجاوزتني هي الحبيبة التي انتظرتها، لأفاجأ بأخرى في عمر أمي، وقد كذبت على في جميع الرسائل!".

فكر قليلا، وقرر كبح غضبه والسيطرة على مشاعره، وأن يكون لطيفا معها، حتى وإن كانت كاذبة مخادعة، فهي لأكثر من عام بعثت الأمل في قلبه، وحثته على الحياة والاستبسال حين كان في الحرب. اقترب منها "جان" مصافحا وحياها بأدب، وقال محدثا نفسه "إن لم يكن من أجل الحب فلتكن علاقة صداقة!". ثم أشار إلى المطعم المجاور لمحطة القطار، ودعاها لتناول الغداء.

ابتسمت المرأة قائلة "يا بني لست من تنتظرها ولا أعرف شيئا عما بينكما".. وتابعت موضحة "قبيل دخول القطار إلى المحطة، اقتربت مني شابة جميلة ترتدي معطفا أخضر، هي من مرت بقربك منذ لحظات، أعطتني وردة حمراء وقالت: سيقابلك شخص في المحطة وسيظن بأنك أنا.. إن كان لطيفا معك ودعاك إلى الغداء، أخبريه أنني أنتظره في المطعم، وإن كان فظا ولم يدعُك اتركيه وشأنه... وأبلغتني أنها تحاول اختبار إنسانيتك ومدى لطفك". 

هنا عانقها "جان" شاكرا، وركض باتجاه المطعم حتى يلتقي حبيبته.

نخلص إلى أن "جان" ظن في أعماقه أن المرأة التي بعمر والدته غشته وخدعته في رسائلها، ولم تكن الشابة الجميلة التي أحبها وبنى أحلامه على لقائها. ومع ذلك سيطر على غضبه وتعامل معها بأدب وأخلاق. تذكر كلماتها التي شجعته على تحمل مشاق الحرب وحثته على التفاؤل بالعودة سالما، قرر في لحظة تجاهل خداعها له وتعامل معها بلطف وإنسانية، دعاها إلى الغداء ليحتفظ بصداقتها عملا بالمثل الصيني "إذا سيطرت على غضبك لحظة، فستوفر على نفسك 100 يوم من الندم"... لكن لو تمكن الغضب من "جان" لخسر حبيبته الحقيقية، وعاش نادما بقية حياته.
Advertisements
الجريدة الرسمية