محنة الحديث النبوي (7)
أراد واضعو الأحاديث أن يخرجوا من مأزقِ تكذيب المسلمين لهم، وأن يحتالوا على الناسِ باختراع أحاديثَ تبررُ أفعالَهم الإجرامية.. فمثلًا أخرجَ الطحاويُّ في "المشكل" حديثًا، عن أبي هريرة، مرفوعًا: إذا حُدِّثْتُم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه فصدِّقوا به، قلتُه أمْ لم أقله، فإني أقول ما يُعرفُ ولا يُنكرُ، وإذا حُدِّثْتُم عني حديثًا تنكرونه ولا تعرفونه فكَذِّبُوا به، فإنِّي لا أقولُ ما يُنكرُ ولا يُعرفُ. (وهنا لا نتهم أبا هريرة بالوضع، فكثيرًا ما نسبوا إليه روايات لم يتفوه بها).
ويشبه هذا الحديثُ حديثًا آخر، رواه أحمدُ، أنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، قالَ: إذا سمعتم الحديث عني تعرفُه قلوبُكم وتلينُ له أبشارُكم، وتروْنَ أنَّه منكم قريبٌ فأنا أوْلاكم به، وإذا سمعتم الحديثَ عني تُنكره قلوبُكُم وتنفرُ منه أشعارُكم وأبشارُكم وتروْنَ أنه منكم بعيدٌ، فأنَا أبعدُكم منه.
وقالَ خالد بن يزيد: سمعتُ محمد بن سعيد الدمشقي، يقولُ: إذا كانَ كلامٌ حسنٌ، لم أرَ بأسًا من أن أجعلَ له إسنادًا !
وعن ابنِ مهدي عن أبي لهيعة، أنَّه سَمِعَ شيخًا من الخوارجِ يقولُ بعد أن تابَ: إنَّ هذه الأحاديث دينٌ، فانظروا عمن تأخذون دينَكم، فإنَّا كنَّا إذا هويْنا أمرًا صيَّرنا له حديثًا! (انظروا إلى الجرأة على رسول الله !!).
لم يكنْ وضعُ الحديث ونسبُه إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مقصورًا على أعداءِ الدينِ، وأصحابِ الأهواءِ، فحسب، بل كان الصالحون من المسلمين يضعون، كذلك، أحاديثَ على رسول الله، ويحتسبون ذلك عند الله (بزعمهم)، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا. وإذا سألهم أحدٌ: كيف تكذبون على رسول الله؟! قالوا: نحنُ نكذبُ له، لا عليه، وإنَّ الكذبَ على من تعمَّدَه!
روى مسلمٌ في كتابِهِ عن يحيى بن سعيد القطان، قالَ: لم نرَ الصالحين في شيء أكذبَ منهم في الحديث، وفي روايةٍ: لم نرَ أهلَ الخير في شيء أكذبَ منهم في الحديث، يعني أنه، كما قال مسلم: يجري على لسانهم، ولا يتعمدون الكذبَ.
وروى مسلم عن أبي الزناد، قال: أدركتُ بالمدينة (المنورة) مائة، كلهم مأمونٌ، ما يُؤخذ عنهم الحديثُ!
قال الحافظ ابن حجر، وقد اغترَّ قومٌ من الجهلةِ فوضعوا أحاديثَ الترغيبِ والترهيبِ، وقالوا: نحن لم نكذبْ عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته!! (وهل طلب منهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يؤيدوا شريعته؟! وهل وجدوها ناقصة فبادروا بإكمالها؟!).
وقال عبد الله النهاوندي: قلتُ لغلام أحمد: من أينَ لك هذه الأحاديث التي تُحَدِّثُ بها في الرقائق؟! فقال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة. قال ابن الجوزي عن غلام أحمد هذا: إنه كان يتزهد ويهجر شهوات الدنيا، ويتقوت الباقلاء صرفًا، وغلقت أسواق بغداد يوم موته. (حزنًا عليه).
وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي، من أصلب أهل زمانه في السُّنَّة، وأكثرهم دفاعًا عنها، ويحقر كل من خالفها، وكان مع ذلك يضع الحديث ويقلبه. وأخرج البخاري في "التاريخ الأوسط" عن عمر بن صبيح بن عمران التميمي أنه قال: أنا وضعت خطبة النبي!
وأخرج الحاكم في "المدخل" بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن؛ سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة (أي: أحتسبه عند الله) !!
وبلغ من أمرهم أنهم كانوا يضعون الأحاديث لأسباب تافهة، ومن أمثلة ذلك ما أسنده الحاكم عن سيف بن عمر التميمي، قال: كنت عند سعد بن طريف، فجاء ابنه من الكُتَّاب يبكي، فقال له: مالك؟ قال: ضربني المعلم. قال: لأخزينهم اليوم! حدثنا عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: "معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المساكين"! (ويقال إن سيف بن عمر هذا كان كذابًا، وكان أشهر من روى عنهم الطبري في تاريخه وغيره من كتبه !).
ومن الخطايا التي تعرض لها الحديث النبوي؛ "الإدراج"، أي وضع زيادة لم تكن فيه، وليست منه. وهو نوعان؛ إدراج في الإسناد، وإدراج في المتن. ومن أمثلة تلك الجريمة النكراء؛ حديث أبي هريرة، الذي رواه الخطيب، أن رسول الله قال: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار"، فقوله: "أسبغوا الوضوء" ليس من الحديث! (أي: لم يقله الرسول).
وحديث فضالة عند النسائي: "أنا زعيم - والزعيمُ الحميلُ - لمنْ آمنَ بي وأسلمَ وجاهدَ في سبيلِ الله، ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّة". فقول: "والزعيم الحميل (أي: الكفيل) ليس من الحديث"!
وجاء في حديث الكسوف، وهو في الصحيح: "إن الشمسَ والقمرَ آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة".. قال "الغزالي": إن الزيادة لم يصح نقلها، فيجب تكذيب قائلها.
كيف يمكن معرفة الحديث الموضوع؟
من مخالفته لظاهر القرآن، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي، أو القواعد المقررة في الشريعة، أو البرهان العقلي، أو للحس والعيان، وسائر اليقينيات أو اشتمال الحديث على مجازفات في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، أو كان مناقضًا لما جاءت به السنة الصريحة، أو كان باطلًا في نفسه، أو ما تقوم الشواهدُ الصحيحة على بطلانه، أو لا يشبه كلامَ الأنبياء، أو كان بكلام الأطباء أشبه، أو يشتمل على تواريخ الأيام المستقبلة، أو يكون سمجًا أو يُسخر منه، وغير ذلك.. من أن تقوم الشواهد الصحيحة، أو تجارب العلم الثابتة على بطلانه أو يكون ركيكًا في معناه.
وقال ابنُ حجر العسقلاني: المرادُ في الركة على "المعنى"، فحيثما وجدت دلت على الوضع؛ لأن هذا الدينَ كله محاسن، أما ركاكة "اللفظ" فلا تدلُّ على ذلك، لاحتمال أن يكون الراوي قد رواه بالمعنى، فغيَّر ألفاظه بغير فصيح.
وهناك كذلك الأحاديث شديدة الطول، كحديث المعراج، والروايات التي تتكلم عن خرافات أو بخرافات وتهويلات، وأمور غير معقولة، وتصرفات تعافها النفوس السليمة، وتأباها العقول الصحيحة، كحديث الذبابة، وأحاديث كثيرة اكتظت بها كتب السيرة، مثل تقاتل الصحابة على نخامة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ونومه عند بعض النساء، وسماحه لها بـ "تفلية شعره"، ومثل تفضيل بعض المساجد على بعض، أو أماكن على أخرى..
وهناك موضوعات شابتها أخطاء نحوية، مثل حديث: "لا تشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد......"، فالفعل "تُشَدُّ".. ليس مجزومًا، بل مرفوع، مبنيٌّ للمجهول، ولو كان مجزومًا على الأمرِ لانسجمَ المعنى، ولكن "لا" هنا نافيةٌ، وليست ناهيةً! (كذا أراد واضعوه).
والخلاصة يخبرنا بها ابن جبير: ما بلغني حديثٌ على وجهه إلا وجدت مصداقَه في كتابِ الله. وقالَ الربيعُ بنُ خيثم: إن للحديثِ ضوءًا كضوءِ النهارِ تعرفه، وظلمةً كظلمةِ الليلِ تنكره.. رواهُ الخطيبُ.