رسائل ربانية
** بائع أقلام متجول، ويبدو من طريقة ممارسته للبيع أنه غير متمرس في المهنة، وممن اضطرتهم الظروف لتحويل مسار جلب الرزق المعتاد إلى آخر، تجاعيد وجهه توحى بأنه في الخمسينيات من العمر، كانت بضاعته تسقط من يديه مع كل فرملة شديدة للحافلة، اشتريت منه أنا وغيري، ودعوت له بصلاح الحال، فرد بنبرة خافتة وعين تكاد تبكى: اللهم آمين يارب «ادعيلي».
(مهما تعثرت الحياة، ومهما تقطعت سبل المعيشة، فلابد أن نكمل السير، فنسعى ونبتغى الرزق الحلال، في أي شكل له، غير مستنكفين تغيير وجهة السعى والعمل).
*******
في ليلة شتاء باردة، قارسة، ومع دقات منتصف الليل، كنا مجموعة من الشباب نمشي في أحد شوارع منطقة مصر الجديدة الهادئة تماما، نندب حظوظنا العثرة من مشكلات العمل، وقلة المرتب، نلعن الظروف ونبكى الحال، وإذ تنشق الأرض فجأة عن شاب ذي هيئة أنيقة، مكفوف البصر، يمشي على الرصيف المقابل المظلم تماما، يتحسس طريقه، ممسكًا عبوات مناديل ورقية بغرض البيع لمن يقابله.
ذهبنا من فورنا، مسرعين إليه، نحاول مساعدته بقليل من الجنيهات، إلا أنه رفض بشدة أن يأخذ أي نقود، قائلا: إنه يبيع ولا يتسول، ورزقه على الله، ونزلنا على رغبته واشترينا منه جميعا، شعرنا بسعادته البالغة وهو يقول منتشيا: «الحمد لله أول فلوس تدخل جيبي النهارده»، فسألته: لماذا تمشي في هذا الشارع المظلم؟، فرد في هدوء بأنه يتعثر في الزحام، لكنه لا يخاف وهو في أمان الله ومعيته، ويثق في الرزق في أي مكان، طالبا منا أن ندعو له بأن يزيد الله له في بيعه.
(الرضا بما قسمه الله أيا كان، لأنه نوع من أنواع العبادة، ومن يري مصائب غيره دائما بعين الاعتبار، تهون عليه مصائبه، وديمومة الحمد والشكر لله، واستيعاب المواقف والدروس، من أعظم مسببات السعادة).
*******
في عربة المترو، صعدت سيدة تبيع لاصق أدوات منزلية ولسانها يبيع بأسلوب يوحى بأنها كانت في رغد من العيش، واضطرت لنزول سوق العمل والبيع، كانت ترفض إلا البيع، والبيع فقط في عزة نفس بالغة، وفى توقيت واحد وبنفس العربة صعدت سيدة أخرى متسولة تستجدى الناس بالبكاء والعويل والقسم بأغلظ الايمان، بمرض زوجها وأطفالها، وكانت تقريبا في سن مساوية للسيدة الأخرى.
(ابتغاء سبل الرزق العفيف بعزة نفس، وبلا تحايل ومراوغة، أفضل وأحسن لأنه يُعلى الهمم، وبه يعلى الله شأن الإنسان في أعين الآخرين مهما كانت بساطته).
********
يمشي على أحد الأرصفة في منطقة وسط البلد، يبيع أشياء ربما ليس لها قيمة كبيرة، مثل أقنعة الأطفال البلاستيكية أو ساعات يد رقمية للأطفال، يعرض بضاعته في حياء، يقف ينتظر رزقه المكتوب، أراه يوميا بنفس البضاعة، وبداخله إصرار وابتسامة لا تفارق وجهه، مستمرا في البيع رغم ما قد يحصده من جنيهات قليلة.
(اليقين بالله وكرمه، فإن أدركت أنه ليس عليك إلا السعى فقط، وأن العطاء والمنح هو المقابل لذلك من الله، ستعلو وجهك قسمات الرضا والبسمة وراحة النفس الدائمة).
***********
في أحد شوارع حى عابدين يقف هذا الشاب الصامت، مكفوف البصر، لا يتكلم ولا يستجدى أحدا، معه لعب أطفال، يحركها محدثا صوتا خفيفا، كى يلفت انتباه الناس إليه، اقتربت منه، واشتريت، كان فرحا بأن ثمار سعيه آتت أُكلها، وأن واسع الفضل رزقه ولم يهمله.
(أعطى دروسا في الإرادة دون أن يدرى، فهو يحارب في جبهتين، أولاهما ظلام البصر، والثانية لقمة العيش).
*********
أستاذى في الثانوى، مدرس مادة التاريخ، كان أيضا يعانى كف البصر، وامتهن العمل كهربائيا، نظرا لأن مادته لا يستطيع أن يتكسب منها دخلا إضافيا ولديه أسرة وطفلان، لم يكن كهربائيا كما يقولون في مصطلحات الصانعين «كهربائي فيشة ولمبة»، لكنه كان أفضل من مهندسى الكهرباء المختصين بشهادة الجميع، فيمسك المثقاب الضخم «الشنيور» في براعة مصارع، دون مساعدة أحد، ويفتح لوحات توزيع الكهرباء الكبيرة دون أي خوف، يتحسس الأسلاك المتشعبة، يفك طلاسم طريقها الشائك الوعر، وسألته ذات مرة: «هو حضرتك مش بتخاف من الكهرباء؟، وكان الأستاذ عبد العزيز يتميز بالدم الخفيف والمزاح، فرد قائلا: «بشوف السلك العريان بقلبي يا بنى، ما فيش مستحيل طول ما بنقول يارب».
( لا يوجد مستحيل، طالما لجأت وارتكنت إلى الله بالدعاء مع السعي والتوكل، فسيسخر لك الصعاب، مهما بدا هذا للناس مستحيلا).
*****
استدعيت إلى الذاكرة، نبرات الرضا والشكر والحمد، مستذكرا إحدى الحلقات التليفزيونية التي استضافت رجلا مكفوف البصر، فقد ـــ إضافة إلى بصره ـــ سمعه، نتيجة تشخيص خاطئ لأحد الأطباء، وكانت جُل أمنيات الرجل أن يعود لسماع الآذان والقرآن مرة أخرى، تتكون أسرته من ثلاثة أبناء وزوجة، جميعهم من مكفوفى البصر وهو عائلها الوحيد، ومع هذا لا ينقطع لسان هذا الرجل عن الحمد والشكر، ولا ينقطع عن السعى الدؤوب بالعمل في أي مجال، لتكسب قوته وقوت أولاده بلا يأس أو قنوط من رحمة الله.
كانت كلمات الجارة العجوز ترن في أذنى مع كل مشكلة أواجهها أو ضيق في المعيشة أو إحساس بالكرب: «الصبر حلو يا بنى، وما ضاقت إلا لما فرجت، ربك كريم وعالم بالحال، بكره تشوف ربك هايديك من وسع، وهاتضحك على الأيام دى وعلى زعلك فيها، وانك كنت شايل الهموم من غير داعى، كله مكتوب ومتقدر لك من قبل ما تتولد، وكل مشكلة وليها حل، بس إنت توكل عليه وقول يارب وهو هايفكها من وسع».
يقول العزيز الحكيم في محكم التنزيل في سورة النمل: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ).
حينما يغلق الله بابًا في وجهك بابتلاء، ثق أنه سيفتح لك ألفًا غيره، فقط هو لزوم اليقين به، وبالتدريج ستتشبع النفس بالرضا، وترى أي شيء في الدنيا قريبا في يدك، مهما بدا بعيدًا أو مستحيلًا، لأنك أمتلكته فعليا برضاك بأمر ربك النافذ فيك.