زمن المتصهينين
لم يعد المرء يندهش من تحولات العرب المستعربة وهم يتزلفون للصهاينة تقربا بدون حياء وطني أو قومي، وصار نتنياهو يتباهى بعلاقات الكواليس العربية مخترقا بطائرته الأجواء العربية، وهو يحط في مطارات العرب مستمتعا بعزف السلام الإسرائيلي في نفس الوقت الذي يعتقل فيه الحمساويون أشقاءهم الفتحاويين في قطاع غزة، في ذكرى انطلاق الثورة الفلسطينية..
وللأسف راحت بعض نساء العرب تتمنى الوصال مع الإسرائيليين، وتدعو للاستثمار في الشرف العربي على أجساد الفلسطينيين في الوطن المحتل، بل إن بعضهن رحن يعتذرن عن مزاعم طرد اليهود من البلدان العربية في أعقاب وكسة ١٩٤٨، وبات من المعلوم بالضرورة أن بعض من يمتهن الكتابة يتزلفون في استلاب رخيص للصهاينة طمعا في جائزة دولية أو ترشيحهن لمنصب أو وظيفة في الإعلام..
وهن يعلمن أن رضا اللوبي الصهيوني هو البوابة الملكية للفضاء الدولي، وعندما تكتب إحداهن باستفزاز متعمدة لتتلقي النقد والهجوم تسعد، لأنها تعتقد أن الهجوم عليها بمثابة أوراق الترشيح للفوز بالرضا اليهودي عليها، وفِي سبيل ذلك يكون الشطط في الهجوم على الثوابت الوطنية والقومية والدينية، بينما لا يجرؤ أحد منهم على مجرد التعرض للهولوكوست أو الصهيونية حتى لا يتم اتهامهم بمعاداة السامية..
وعلى العكس من ذلك جاء على المثقفين العرب حين من الدهر استبعدوا إسرائيل من خانة الأعداء واستبدلوها بإيران حينا وبالفلسطينيين حينا آخر، لدرجة أن ترامب حين نقل سفارة بلاده من تل أبيب للقدس كان رد الفعل العربي والإسلامي أقرب للترحيب منه للرفض والشجب، وأصبحت الإدانة فعلا من الماضي..
وللأسف مر هذا التخاذل مرور الكرام، مما شجع نتنياهو وعصابته بالمزيد من التوسع فيما تبقى من القدس والضفة الغربية، وأصبح بناء المنازل والمستوطنات في الأراضي المحتلة أمرا عاديا، خاصة وأن زمن ما بعد الربيع العبري هو الفرصة الذهبية لتحقيق كل الأحلام الصهيونية، لأنهم يعرفون أن العرب والمنطقة يعيشون زمنا استثنائيا من الضعف والهوان لن يتكرر..
وإذا لم تحصل على ما تريد في تلك الأيام فلن تحصل عليه أبدا، وربما يكون العيب ليس في الصهاينة ولكن فيمن تساهلوا وارتضوا بالهوان، ولم يطالبوا بالتعويض عما لحق بالعرب منذ النكبة وحتى الآن، ولم يتعلموا درس اليهود مع ألمانيا في فرض تعويضات سنوية عما لحقهم على أيدي النازي منذ أكثر من نصف قرن، وبدون قرارات دولية، بينما لم تفلح كل الدول العربية حتى في إجبار إسرائيل على تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، والوضع الدولي لمدينة القدس.
فإذا كان هناك من يتعاطف معهم فلتكن المعاملة بالمثل، ولكن المتصهينين العرب لا يجدون حرجا وهم يدعمون إسرائيل في قصف غزة بزعم أن حماس تنفذ أجندة إيرانية، لدرجة أن أحد النشطاء الخلايجة راح يتوسل لنتنياهو أن يدك معاقل حماس ولا يتورع عن الدعاء بأن يسدد الله رمي الجنود الإسرائيليين على مواقع حماس الإرهابية..
وهكذا فقد أصبح الأمر يتجاوز الكيد السياسي والخلاف الأيدلوجي إلى حالة من الفجر الوطني والتحول الإستراتيجي في توجهات بعض النخبة العربية، وهم الثمرة العطنة التي أنتجها مسار أوسلو الذي نجح في تقليم أظافر المقاومة كفعل وثقافة، وكانت البدايات عبر قناة الجزيرة في أكبر عملية غسيل للدماغ العربي بجعل الإطلالات الإسرائيلية عبر الشاشة العربية مقبولة نفسيا..
ثم جاءت دعوات التعايش والتطبيع المجاني وفق خطط مبرمجة ومحددة تمت صياغتها في مؤتمر كوبنهاجن عام ١٩٩٧ متزامنا مع انطلاق قناة الجزيرة، وكان مثقفو كوبنهاجن هم من قادوا أكبر عملية تضليل سياسي لتجميل وتبرير القبح الصهيوني وتزييف الوعي وقلب الحقائق وإنهاء الصراع مع إسرائيل شعبيا، بعد أن انتهى رسميا، ولم يعد ينقص هؤلاء إلا إعلان حزب المتصهينين رسميا في مختلف عواصم العرب.