في محبة أقباط صنعوا التاريخ.. أنسي ساويرس غازل الأمل من خيوط الأزمة
الفتوحات الاقتصادية تسطر أسماء أصحابها في كتب التاريخ، ومع احتفال "فيتو" بأقباط صنعوا التاريخ، لم يكن هناك اسم ينافس رجل الأعمال أنسى ساويرس للحديث عنه والاحتفاء به في العيد الثامن لـ«فيتو» المتزامن مع احتفالات أعياد الميلاد.
في بلاد تختلط فيها سمرة الأرض بوجوه البشر، ويعرف فيها الناس بعائلاتهم بقدر امتداد جذورهم في عمق الطين، كان ميلاده في الثلاثين من أغسطس من عام ١٩٣٠م، ليأتى آخر العنقود بعد ثلاثة من الإخوة جاءوا بالترتيب، مراد ثم مختار ثم سميحة ثم هو، ومن ابوين ينتميان إلى تراب هذا الأديم القادم من عمق التاريخ، جاء الأب نجيب الذي يعمل محاميا يعتز بمهنته، ويقدر دورها وأم ربة منزل تتسم بحسمها المفرط، وقدرتها على اتخاذ القرار في إدارة شئون منزلها، وفرض قانونها على مملكتها في التربية لإخراج أجيال تتشابه ملامحهم مع ما تخرج الأرض التي ورثوها من نبات طيب يبوح بخير وفير.
يتخرج الشاب أنسي نجيب في كلية الزراعة، ليكمل مشوار الأجداد مع أرض تزيد قليلا عن ثمانين فدانا، وهي ثروة كبيرة في سوهاج توارثوها ونموها أبا عن جد حتى آلت إلى الجيل الجديد من الأبناء الأربعة.
يتململ الشاب اليافع من رتابة النموذج الزراعي، وما يفرضه من انتظار الحبة التي وضعت في أعماق التراب حتى تنمو بطيئة لتورق، ومن ثم تنضج ثم يأتي موسم الحصاد، يفكر كثيرا في تغيير نشاطه ليتفق مع شخصيته الراغبة في الانطلاق نحو آفاق جديدة، خاصة وأنه وباعتباره آخر العنقود كان الأكثر تأثرا بدقة والده المحامي الذي يضع كل شيء في موضعه بما تفرضه عليه رسالة الدفاع عن الحقوق، وما يستلزمه ذلك من إفراط في الحرص على كل ورقة يوقعها ويودعها أحد الملفات التي يكتظ بها مكتبه.
كان الأب نجيب مدرسة في الانضباط، ولم تكن الأم أقل منه حسما وقدرة على إلزام الآخرين برجاحة عقلها ونفاذ رأيها، فكانت كما عبر عنها -آخر العنقود- قادرة على حكم بلد.
تحمل الأقدار لنا دوما طريقا ربما لم نفكر فيه. الشاب العشريني أنسى يلتقي مصادفة بمدرسة جديدة في الحياة، مدرسة اسمها لمعى يعقوب، ولمعى يعقوب هو المقاول الذي استعان به الوالد نجيب لإضافة دورين إلى الطوابق الثلاثة في العمارة التي يمتلكها على نيل سوهاج، المحافظة التي احتوت هذا الجمع الذي ينتظره نوع جديد من التحدي، سيقفز بهم إلى العالمية بعد جيل واحد فقط.
انجذب أنسي إلى المقاول لمعي يعقوب وندهته نداهة هذا الرجل الذي اتسم بذكاء حاد، وقدرة على إدارة أعمال المقاولات، فوجد فيه ضالته المنشودة وقرر دخول عالم المقاولات.
في عام ١٩٥٠م قرر الشاب أنسي بموافقة ومباركة الأب الذي لم يكن على يقين من نجاح ابنه إنشاء شركة لمعى وأنسى للمقاولات وعنوانها التلغرافي أوراسكوم، لتبدأ قصة واحدة من أهم الكيانات الاقتصادية في تاريخ مصر.
فوجئ نجيب الأب بنجاحات ابنه أنسي المتواصلة بعد حصول شركته على عقد حفر آبار للمياه، وتركيب طلمبات ومواسير في ثمانية عشر موقعا بسوهاج، ثم توالت العقود على الشركة الناشئة بدءا من إنشاء محطة مجارى أسيوط، ثم الانطلاقة الكبرى التي تمددت فيها أعمال الشركة ليصبح لها مكاتب في أسيوط والمنيا والمنصورة والقاهرة.
بعد أحد عشر عاما أيقن أنسي نجيب ساويرس المعني الحقيقي للمأثور العربى القائل: "تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن" وبالتحديد في عام ١٩٦١م عندما صدر قرار ثوار يوليو بتأميم الشركة.. قوة من الأمن تخرج أنسي من مكتبه ليحتلها رئيس مجلس إدارة جديدة ويتحول هو بين يوم وليلة إلى موظف براتب شهري قدره مائة وخمسون جنيها، ويمنع من السفر لحين التأكد من أن الشركة ليست مدينة لأحد، ويقرر الثوار دمج شركة لمعي وأنسى في شركة عبود باشا وشركة بلجيكا تحت اسم شركة النصر للأعمال المدنية.
خمس سنوات مضت كئيبة على الشاب الذي وصل إلى المحطة السادسة والثلاثين من العمر، وكل محيطه يظن أنها النهاية المحتومة لقصة نجاح أطفأتها قرارات التأميم غير أن واقع الحال كان ينبئ بأن الشاب الصعيدى يأبى الانكسار.
انتهى قرار المنع من السفر ليقرر أنسي السفر إلى ليبيا.. هناك وعلى أرض غير الأرض وناس غير الناس يذوب أنسي في مدرسة جديدة تعلم فيها كما تعلم في مدرسة لمعي فالليبيون كما يصفهم تجار بالفطرة، وشعب ذكي لديهم قدرات منها حصل على الدكتوراه ولكن من مدرسة الحياة في البلاد الجديدة.
تعرض أنسي الذي عاهد نفسه على النجاح لمحن وكبوات وعثرات كثيرة دون أن يفقد الأمل في الوصول إلى ما يراه يليق بقدرته على التحدى، وفي مواجهة الطليان الموجودين على الأرض والذين كان يكرهون كل ما هو عربى.
وسط عتمة الغربة يلوح أمل آخر أمام الشاب المغترب بلقاء تسوقه الأقدار إليه ليمهد أمامه طريقا جديدا..التقى أنسي مجموعة بن بركة التي يمتلكها الإخوان محمد وصالح بن بركة، ويلقبان بالفيتوري.. انطلق أنسي تحت اسم المجموعة باعتبارها كفيلا له ليصول ويجول ويحقق ما كان يتمنى وتتحول علاقة العمل إلى علاقة صداقة وطيدة، بعد أن أيقن الإخوان بن بركة أنهما أمام نموذج إنساني يتسم بالصدق والأمانة والقدرة على تحقيق منجزات أدهشت الجميع.
كانت مصر على موعد مع رجل المعجزات، جاء السادات ليخوض معركة الكرامة ويحقق المعجزة في انتصار أعاد للعرب كبرياءهم عام ٧٣ ثم يشرع في العام ١٩٧٤ ببداية جديدة لإعادة الهيبة والدور إلى القطاع الخاص، وفي ذات اللحظة كان أنسي لا يزال في معركة التحدى على الأراضي الليبية، منشغلا بما يحدث على أرض أجداده من تغييرات تغريه بالعودة التي تأخرت حتى العام ١٩٧٧م.
كانت هواجس تأخير العودة تنهش أفكار أنسي غير أنه أدرك عند عودته أنه الوقت المناسب لحياة جديدة ومعركة أخرى مع التحدى لتبدأ اطلالة "أوراسكوم" شركته الجديدة التي أنشأها بحلم آخر ظل يراوده طوال سنوات الغيبة والغربة والتيه مع بداية شاركه فيها نبيلة المنقباوي ابنة شقيقته والمهندس شريف فانوس.. المثير أن هذه البداية أيضا ولدت من رحم شهر أغسطس وهو شهر المولد والتفاؤل في حياة الرجل الصامد.
توفرت لأنسي خبرات من سنوات ما قبل الغربة وسنوات العمل وسط أشقاء يصفهم بكل ما هو جليل في ليبيا فاتجه إلى التوكيلات فكان توكيل شركة فولفو السويدية هو الأول في عنقود التوكيلات التي حصل عليها تباعا بعد ذلك.
أنسي نجيب ساويرس الذي تحطمت شراعه مع التأميم، وراودته أحلام البداية الجديدة في سنوات الغربة ثم عودته لحياكة أمل جديد بعد الانفتاح لم يكن منهمكا في ذاته ولا في أعماله دون مشروعه الحياتى الأكبر كما يصفه.."مشروع تعليم الولاد".. في كل تجاربه لم يكن المال هو هاجسه.. كان المال دوما وسيلته لتحقيق الحلم الأكبر في توفير مناخ تعليمى لأبنائه الثلاثة: من المدرسة الالمانية كانت الانطلاقة الأولى، نجيب الابن الأكبر يتجه إلى المعهد العالى للتكنولوجيا بزيورخ، سميح - الأوسط- يدرس الهندسة في برلين، وناصف - الأصغر- يتخرج في جامعة شيكاغو دارسا الاقتصاد.
يتسلم الفرسان الثلاثة راية التحدى من الأب المؤسس لينطلقوا إلى آفاق لا تعرف الحدود ولا تقف عند العثرات ولا تعترف بالإحباط وعندما يسأل الأب عن سر النجاح فيقول بتواضع جم: كل موظف عمل معى أشكره من صميم قلبي وأنا مدين له بالكثير.
"نقلا عن العدد الورقي"..