الست «أم عشم»
أذكر وقد كنت في السابعة من العمر، يوم أصابت أمي غيبوبة سكر كادت تودي بحياتها إلا أن جارتنا السيدة "أم عشم" وأبناؤها سارعوا إلى حمل أمي للمستشفى في لحظات، منقذين حياتها، فكان هذا دينًا في رقبتنا، جعل علاقة الجيرة والمحبة تتوطد أكثر فأكثر، بين أمي وبين الست "أم عشم" الصعيدية المكافحة، فلم يسمع أحد منها أو من أسرتها صوتًا عاليًا، أو لفظا مسيئًا، فكانوا نموذجا يحتذى في العشرة والجيرة الطيبة الهادئة.
ومنذ وعيت في طفولتي، كانت مدام أنجيل الجارة الطيبة صديقة أمي، وكان زوجها الخلوق الأستاذ يسي، من أفضل الجيران خلقا وتواضعا واحتراما لأصول الجيرة في الفرح وفي الحزن.
ملاك، زميلي في المدرسة الابتدائية، الأستاذ شفيق صديق أبي، ماهر وميشيل أصدقاء أخي، مارسة وناهد صديقات أختي، الكل في بوتقة واحدة عنوانها الأساسي مصر، هذا له مسجده وهذا له كنيسته، وكل يعبد الله بمنهجه.
جار الخلوق ذو الوجه البشوش، الأستاذ ميلاد، لم أسمعه يوما يخوض في سيرة جار، أو يسئ إلى أحد، تمتد عشرتنا الطيبة إلى ما يربو فوق العشرة أعوام، وما زلنا في كل مناسبة نبادر إلى الاطمئنان والتهنئة والفرح المشترك.
الشيخ عماد، كما يحلو لي أن ألقبه، الصديق والصحفي اللامع، الذي كسب محبة الجميع بالروح المرحة والعلاقات الطيبة، واستشهاده بالآيات القرآنية في أحاديثه معنا.
ياسر، بائع المطعم الذي أحضر منه إفطار كل يوم جمعة (نعم اسمه ياسر)، والذي يعاملني هو وأخوته الثلاثة في محبة بالغة، مُصرًا أن يرتب لي طلباتي أولا قبل أي أحد، مع بشاشة في وجه شقيقيه بيشوي وسمير، وهو يدعو لى بالصحة والستر والبركة في الأولاد.
كان كوب الشاي الذي تعده والدة صديقي ماجد مميزًا، وهي تقدمه لنا في أمومة بالغة مشبعًا بكلمة (ألف هنا وصحة يا ابني).
تسللت إلى عقول البعض منا بل استقرت وتعفنت، تقسيمات بغيضة نشأت بها الأجيال الصغيرة على أن هناك فريقين متخاصمين في هذا الوطن، رغم أن ما يجمعنا رابطان أساسيان هما الوطن والإنسانية، ومنهجان محببان إلى أي نفس بشرية، الخير والسلام.
أسمع وأحزن حينما أرى بعض الآباء يربون في أبنائهم الصغار كراهية أصدقائهم على أساس اختلاف الدين، فيصنعون تطرفا مقيتا قبيحا ينمو مع الأيام، وينتفخ مثل خُرّاجًا مُلتهبا يخفى أسفله قيحًا وصديدًا، فلم نختر ديناتنا، ونشأنا بالفطرة كما ربانا آباؤنا، وكانت القاعدة العامة للأديان السماوية متساوية في إفشاء المحبة والمودة والرحمة والخير والسلام.
ولكن هناك من انجذبوا إلى هاوية التربص، والتطرف، والعداوات غير المبررة، مع أن النص القرآني واضح وصريح في منشأ الاختلاف، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) «سورة هود»، فإرادة التنوع إرادة إلهية لحكمة ربانية، وهذا هو بيت القصيد، كل عام ونحن شركاء في الإنسانية والوطن والمحبة والخير والسلام.