رئيس التحرير
عصام كامل

من الصديق «الجبرتي» إلى «إهداءات محفوظ».. مكتبة «جاهين» أي شيء عن كل شيء

 مكتبة «جاهين»
مكتبة «جاهين»

«أنا عندي مكتبة وسرير ومرتبة.. أتنطط ما بينهم واتشقلب شقلبة».. مكتبة داخل منزل أحمد حلمي باشا بحي شبرا، لصاحبها صلاح جاهين، الشاعر المصري الاستثنائي، ظلت شاهدة على علاقات خاصة، بين صاحبها وأبطال الكتب والروايات، لم تنكشف بعد، اعتبرها إرثه الذي خلفه للأبناء.


‫أمهات الكتب والروايات، مخاطبات ورسائل احتفظ بها صاحب الرباعيات داخل الأدراج وعلى الأرفف، احتلت كتب التراث داخل مكتبته نصيب الأسد، ففيها نسخ من «العقد الفريد» لابن عبد ربه، «السلوك» للمقريزي،‬ و«شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني» و«محاضرة الأبرار» و«البخلاء» للجاحظ و«الأغاني» للأصفهاني و«الإمامة والسياسة» المنسوب إلى ابن قتيبة و«الخطط التوفيقية» لعلي مبارك و«قاموس العادات والتقاليد» لأحمد أمين.

‫كان عبد الرحمن الجبرتي، أخلص الأصدقاء وأقربهم لجاهين داخل المكتبة، يتسامران سويًا لساعات، يناقشان أحوال البلاد والعباد قبل ألف عام، ‬معه يطل من فوق أسطح المنازل على شوارع مصر الضيقة، تفاصيل الوجوه وقلوب "ناسها" الحقيقيين، علاقة صداقة نتج عنها «على اسم مصر»، لم يكن الجبرتي وحده ونيس صلاح في ساعات السمر، بل احتل ابن عبد ربه موقعًا كبيرًا من هذه الجلسات، اعتبره جاهين شخصية موسوعية، كتب في كافة المشارب، وصل للحد الذي يصف بين سطور وصفة لعلاج السعال.

تأثر صلاح جاهين بمقدمة ابن خلدون، واحتفظ بها ضمن روائع مكتبته الثرية، كان يعتبره أول من تعامل مع السياسة، كعلم وبعده جاء ميكافيللي، وكان لجاهين تفصيلا في اتجاه الأخير للشعر، واستخدامه في تفسير ظواهر انهيار وقيام الأمم، فكان ابن خلدون في نظره، يعني أنه رجل اجتماع لكن ميكافيللي، كان يكتب عن كيفية الوصول إلى الحكم.

«كتب قديمة صفراء أول ما أفتحها يهب منها تراب رائحته صعبة للغاية تخنق، يعني كل ما يبقى عندي موضوع عايز أعرف عنه معلومات تاريخية لازم افتحها ساعات أكون محتاج مجرد إني أعيش في جو معين وافتحها لمجرد لفتها، أكون عايز أشبع شوية من لهجتها في الكلام زي مثلا في أيام استعراض القاهرة في ألف عام». كانت ريحة الكتب لجاهين كما النسيم، أو المخدر الذي أدمنه لحظات الفرح والاكتئاب.

نظم صاحب الرباعيات داخل مكتبته صالونا فكريا وأدبيا، شارك فيه عمالقة الأدب في العالم، من خلال الكتب، اصطفت روايات نجيب محفوظ إلى جانب أعمال توفيق الحكيم، ومن بينهما أشعار المتنبي وبيرم التونسي، ورسائل جبران خليل جبران، أما عبدالله النديم فكان هو من يدير الصالون من خلال الأعداد الكاملة لمجلة «الأستاذ»، وظلا تشيكوف ودوستويفسكي، ضيفين عزيزين يطلان بأناقة وهدوء بين الحين والآخر، أما صلاح فأخذ موضع المتفرج يشاكس نجيب ويباغت الحكيم، ويجلس في أغلب المرات شاغرًا فاه كطفل صغير، يقترب من أحدهم ثم يعاود ويقترب من الآخر وهكذا دواليك.

على الأريكة داخل المكتبة، كان على موعد غرامي من نوعٍ خاص «شيلته» هي الأقرب بعيدًا عن تكلف المقريزي وبلاغة الجاحظ، يلتقي ورباعيات الخيام بترجماتها المتعددة، «في الأدب الشعبي» لأحمد رشدي صالح، الذي مهد له الطريق لديوان «عن القمر والطين»، «سندباد مصري» للدكتور حسين فوزي، «الأغاني الشعبية» لبهيجة صدقي وكتاب «أغاني شعبية من مصر العليا» لماسبيرو، كللت في نهاية المطاف برباعيات جاهين وأوبريت الليلة الكبيرة.

داخل مكتبة جاهين بمنزل أحمد حلمي باشا بحي شبرا، يظل صاحب نوبل حاضرًا حتى بعد الرحيل، حيث قال عنه:"جاهين كان واحدًا من شلة الحرافيش، بل من المؤسسين الأوائل، اصطحبه توفيق صالح معه ذات مرة، ومن يومها أصبح عضوًا مؤسسًا، منذ تلك الليلة دخل قلوبنا مباشرة، لدرجة تصورت معها أني أعرفه قبل أن أعرفه شخصيًا ".

ظلت إهداءات محفوظ بخط يده علامة مميزة تضئ مكتبة جاهين، أشهر هذه الإهداءات التي كتبها على الصفحة الأولى من روايته «الحرافيش»: «تحيات مباركات بعدد مواهبك المتنوعة»، وكرر الإهداء أيضًا مجموعة «الحب فوق هضبة الهرم»: «تحيات بعدد مواهبه المتعددة».
الجريدة الرسمية