النخلة أرض عربية
مواسم حصاد القطن والتمر والقمح هي الأشهر في الريف المصري.. الريفيون من أمثالي لا يزالون يتذكرون أسماء بعض النخيل في قراهم، حيث يسمى النخيل باسم نوعه وباسم صاحبه، فهذا بلح "زغلول" ملك فلان الفلاني، والنخلة في بعض القرى مستباحة لمن جاع، عليه أن يصعد ويأكل، بل يأخذ منها إلى بيته دون استئذان صاحبها.. النخلة مباركة وهي أيضًا في معظم الأحيان زكاة زرع، وقد قال عنها الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب "النخلة أرض عربية".
وكان موسم جني ما تبقى على شجرة النخل في الريف الفيومي على سبيل المثال يحظى باهتمام كبير، إذ يجمع السباط من على النخيل، ويجفف فوق أسطح المنازل مدة زمنية قد تصل إلى عشرين يومًا، ثم يجفف مرة أخرى عن طريق الأفران البلدية ثم يخزن للاستهلاك، أما تمر سيوة فإن له قصة أخرى في التخزين والتشميس والإعداد للاستهلاك، وطرق تناوله كثيرة تمتد من التناول العادي حتى الإعداد بالسمن البلدي، وغيره من الطرق التي يعرفها أهل الريف في كل أنحاء مصر.
ومن يقرأ جيدًا تاريخ المملكة العربية الحديث، يدرك أن التمر كان زاد جنود الملك عبد العزيز عند حصارهم للرياض أربعين يومًا لم يأكلوا فيها إلا التمر، وكان الملك فيصل يردد دومًا "عشنا وعاش أجدادنا على التمر واللبن وسنعود إليهما"، ومن المعروف أن التمر السعودي واحد من أهم وأجود الأنواع على الأرض قاطبة، انتقلت النخلة إلى بعض الدول المتقدمة مثل اليونان فأنتجت تمرًا قليل السكر لمرضى السكر ومن يخشون السمنة.
في مصر أكثر من ١٤ مليون نخلة من بينها عشرة ملايين نخلة مثمرة، ومن غير المعروف أن سوسة النخيل قد دخلت البلاد عن طريق "الهدية"، حاكم عربي أرسل عددًا من النخيل النادر هديةً لمبارك، ولأن الهدية من حاكم عربي إلى رئيس مصر، فإن السلطات لم تتعامل معه بالشكل الروتيني المتعارف عليه، من حيث الكشف عليه ومعرفة ما إذا كان مريضا من عدمه، دخل نخيل الحاكم العربي مصحوبًا بسوسة النخيل التي كبدتنا ولا تزال تكبدنا خسائر كبيرة.
إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عن أكبر مزرعة في العالم للنخيل، والتي ستضم مليونين ونصف المليون من أجود أنواع النخيل، يعني أننا سنضاعف عدد النخيل في بلادنا بنسبة ٢٥٪ من عدد النخيل على مدى تاريخ البلاد، وهو رقم مذهل ومدهش وضخم للغاية، ويعني أن الأيادي المصرية كانت تعمل في هذا المشروع منذ فترة، خاصة أن النخيل من الأشجار التي تحتاج إلى دقة في اختيار موقعها، وقياسات التربة ونسبة الملوحة ودرجة الحرارة طوال العام.
أعرف أصدقاء يعملون بالاستثمار الزراعي، وقد بدلوا زراعاتهم بالنخيل، بعد أن زاد الاهتمام به ووصول المنتج المصري إلى أكثر من ٥٨ دولة في العالم، تستورده عواصم أوروبية كثيرة، لما يحظى به من سمعة طيبة في الأسواق، ومن أكثر الدول التي تهتم بالتمر وتعبئته وتغليفه إضافة إلى جودته الشقيقة تونس، التي تحظى بوجود أنواع ممتازة من تمر دجلة نور، وهو النوع المنتشر في ليبيا والعراق غير أن أشقاءنا في ليبيا لم يهتموا كثيرًا بتصدير التمور، وظل للاستهلاك المحلي حتى أواخر أيام القذافي.
مزرعة النخيل المصرية الجديدة، كما أعلن عن بعض تفاصيلها، تضم نخبة ممتازة من التمور من أجل التصدير والوصول برقم العملة الصعبة إلى قرابة الـ ٤٠٠ مليون دولار، وهو من المشروعات الواعدة، إضافة إلى أنه نوع من الزراعة غير المستهلكة للمياه بشكل كبير، إذ تتحمل النخلة ظروفًا قاسية، وهي قادرة على العطاء في ظل ظروف العطش والحرارة بشكل كبير، كما أن إنتاجها مطلوب في الخارج.
يبقى أن نؤكد أن الزراعة ثم الزراعة، والصناعة ثم الصناعة، والإنتاج ثم الإنتاج، هي عناصر الاستقلال الحقيقي، أما غير ذلك فإنها رفاهية لا يسمح بها الظرف التاريخي الحالي، فمن أراد أن يتقدم هذا البلد عليه أن يشجع الصانع والزارع والمنتج، وإطلاق الطاقات في هذه المجالات، بعد أن أضعنا الكثير من الوقت والجهد والمال في مشروعات أخرى، كنا وما زلنا نتصور أنها جاءت في التوقيت الخاطئ رغم أهميتها!