«٢٥ قرشا!»
كان يجلس إلى جواري في المواصلات، يمسك هاتفه ويتحدث في صوت جلل: «أنا هاجيلك ونصلي العشاء سوا بمشيئة الله»، ويبدو أن الطرف الآخر حثه على عدم التأخير في القدوم، فقال جار مكملا حديثه في الهاتف: «ماتخافش هنلحق إلا صلاة العشاء، العشا ممتد، إلا العشا يا عم».
وانتهت المكالمة التي أشعرتني بسعادة بالغة، من الحرص على أداء العبادات والطاعات والالتزام بها، إلى أن عاجلني هذا الجار المواصلاتي بالقاضية، في مكالمة أخرى: «ألو، بقولك، لو حد سأل عليا قول لهم ماعرفش عنه حاجة»، ثم سكت يستمع إلى ما يقوله طرف المكالمة الآخر، واستطرد قائلا: «الصراحة أنا مش جاهز أسدد دلوقتي وهما عمالين يتصلوا وأنا منفض، اسمع اللي بقولك عليه بس ولو حد سألك عني قول لهم ماشفتوش وماعرفش عنه حاجة من فترة».
تلخصت المكالمة الثانية، التي لم أسترق السمع فيها، بل كنت أسمع رغما عن أذنى، في مزيج من الكذب والتهرب من سداد ما يبدو أنه دين على المتكلم، وحثّه الطرف الآخر على ممارسة الكذب بنفي رؤيته أو معرفة أي شيء عنه!.
مشهد آخر لرجل يحث الناس على الصلاة وفضلها وأهميتها، بل وقد يُعاير من لا يصلي بأبشع الأوصاف والألفاظ، وتراه في معاملاته مختلفا تماما، فلا تخلو نبرات صوته عند الحديث مع الآخرين من السباب، ومن تعبيرات صوتية سخيفة متداولة بين أراذل الشوارع، ولا يخلو الأمر أيضا من الغيبة والنميمة.
على النقيض تماما، أذكر يوما كنت أسدد فاتورة استهلاك في إحدى المصالح الحكومية، وفرغ موظف الشباك من أداء صلاة الظهر في دقائق معدودة لم تتجاوز العشرة، معتذرا للوقوف عن تعطيله حالهم في أدب جم، وجاء دوري في السداد، وأعطيته قيمة الفاتورة، وكان المبلغ المتبقي لي هو ٢٥ قرشا فقط، وهممت بمغادرة الشباك غير مكترث بتفاهة هذه القروش.
لكن هذا الموظف استوقفني، وأصر على البحث عن فكة مع زميله في الشباك المجاور، لإعطائي حقي، وقد كان من الممكن أن يتكسب مني ومن غيري من تجميع حصيلة هذه القروش في جيبه الخاص، ولن يحاسبه أحد أو يعرف، لكنه أرفق صلاته بأفعاله الحسنة ومراقبته لله عز وجل في الابتعاد عن المال الحرام، وإعطاء القدوة الحسنة والنموذج المحترم، لمن أرفق طاعاته بمعاملاته وجعلهما متوازيين على المسار نفسه، لأن الأولى لا بد وحتما أن تصلح الثانية وتقومها، لدى من يعي ومن له قلب سليم.
حُسن أداء العبادات والطاعات وفق الضوابط السليمة، لا بد أن يرافقه سلوك حميد ومعاملات راقية ملتزمة أولا بأداء حقوق الآخرين من لفظ حسن، وديون مؤداه، ووجه بشوش، وتعاون على البر والخير، ونهى عن الغيبة والنميمة، والاحتراز عن الحرام وشبهاته، فلا تكفي العبادات وحدها فقط لرقي المجتمع، إلا بأن يعرف كل منا أن صلاته وسلوكه جنبا إلى جنب، متلازمان لا ينفكان.