رئيس التحرير
عصام كامل

سترات الغموض الصفراء


إذا كانت صناديق الاقتراع هي الملاذ الآمن الذي استقرت عليه أوروبا بتجاربها الديمقراطية العتيقة كوسيلة تغيير؛ فما سبب العنف الذي صارت إليه الأمور في باريس وفق مجريات أحداث غريبة تركبها جماعة السترات الصفراء؟هل انتهى عصر الديمقراطية بشكله المتعارف عليه؟ هل يظهر إلى الوجود نموذج آخر غير الذي حكم أوروبا لعصور متتالية؟ هل يكفر الأوروبيون بالنموذج الديمقراطي القديم؟


كنا نتصور أن جماعة الإخوان عندما ارتكبت جرائم عنف ضد المجتمع وضد السلطات في يناير وما أعقبها من أحداث اقتحام لأقسام الشرطة واقتحام السجون وضرب كل ما ينتمي إلى السلطة بعنف.. كنا نتصور أن ذلك جرى لأن نموذج انسداد الحياة السياسية قد مهد الطريق لهذا العنف بعد أن أمم نظام مبارك مبدأ تداول السلطة وجعل من الأحزاب السياسية مسخًا مشوهًا دون تفعيل حقيقي.

وكنا نظن أن الأطراف الدولية التي تحدثت عن الفوضى الخلاقة استطاعت أن تفعل ذلك من خلال اختراق مجتمع فقير ثقافيًّا وتعليميًّا واقتصاديًّا غير أن الواقع الفرنسي يدفع بهذا المفهوم إلى الوراء.. نحن في دولة كانت هي من صاغ مبادئ الحريات الفردية والإنسانية.. دولة اكتوت بنار العنف وفقدت من أبنائها الملايين في الطريق إلى الحرية ونشوء نموذج للحريات لا يزال يضرب به المثل وتتوق إليه الشعوب في أرجاء المعمورة كافة.

الذي يحدث في باريس هو نوع من التمرد غير المبرر ضد التجربة الإنسانية التي دفع الشعب ثمنها دماء وعهودًا من عدم الاستقرار وظهور ترامب على الخط بهذا الوجه القبيح يوحي بأن الاختراق قد يحدث لمجتمعات تتسم بنظم تعليمية هي الأفضل على مستوى العالم ويلغى من جديد فكرة الاختراق من باب الحاجة والعوز والفقر.. شيء ما يحدث سيصبح محل جدل قانوني وسياسي واجتماعي واقتصادي ومخابراتي أيضًا في السنوات المقبلة.

تاريخ ما قبل السترات الصفراء سيختلف كثيرًا عن تاريخ ما بعد السترات الصفراء وسيصبح مجرد فهم ما يحدث على أرض فرنسا وانتقاله إلى مناطق أخرى من أوروبا مادة لأصحاب النظريات السياسية والاقتصادية في الجامعات والمعاهد والأحزاب وبين النخبة المثقفة في أوروبا كلها، وليس فرنسا فقط؛ إذ يكفي أن تتحدث أطراف فرنسية عن "المؤامرة" مثلما نتحدث نحن في عالمنا العربي عن المؤامرة منذ عقود طويلة، مبررين فكرة التراجع والتخلف والانهزامية.

السترات الصفراء.. ذلك الكيان الهلامي لا يمكن التنبؤ بما سيقدم عليه في الأيام القليلة المقبلة، خاصة أننا أمام تنظيم غريب ومدهش وتتمدد مطالبه بين اللحظة والأخرى بشكل مستغرب.. السترات الصفراء ليست حزبًا سياسيًّا يمكن التفاوض معه، بل إن من أعلنوا عن جاهزيتهم للتفاوض تلقوا تهديدات بالقتل دون أن نعرف من هو ذلك الطرف الذي يملك القدرة على التهديد؛ فبات الشك يحاصر التحرك وأهدافه الخبيثة.

تراجعت الحكومة ولم تتراجع التحركات العنيفة.. أراد الحزب الحاكم إدارة حوار؛ فظهر على السطح الشعار العربي "الشعب يريد إسقاط ماكرون" وماكرون هذا جاء بالاقتراع؛ أي إنه يعبر عن الغالبية التي اختارته.. ما حدث في باريس ليس إلا فصل غامض قد لا تنبئ الأيام القليلة المقبلة بحقيقته!!
الجريدة الرسمية