شيزوفرينيا (٣)
أعراض «الشيزوفرينيا» طالت كل فئات المجتمع، ولم ينج منها إلا من رحم ربي، وأصبحت المثالية أشبه بالمناديل الورقية، نستهلكها في جلساتنا العامة، وفي جلساتنا الخاصة نضعها في أقرب صندوق قمامة، عن العدالة نتحدث أمام الكاميرات، ونمارس الظلم خلفها..
إذا سألت أستاذا جامعيا عن معايير تعيين المعيدين في الجامعة، سوف يحلق بك في أجواء من المثالية، مؤكدًا على حق المتفوق في التعيين، لكنه (الأستاذ نفسه) يستثني ابنه من شرط التفوق إذا تساوت درجاته مع درجات طالب آخر أو كانت أقل منه، بل إن بعض الأساتذة يحجزون أماكن التعيين لأبنائهم قبلها بسنوات، من خلال اتفاق شفوي مع زملائهم، ونتيجة لمبدأ (شيلني وأشيلك) يتم حرمان أوائل بعض الدفعات من التعيين في أماكن شاغرة لأنها ملك لأبناء الأساتذة.
ما يسري على أساتذة الجامعة يسري على كل القطاعات، فإذا انتقلت إلى الإعلام فيكفيك إعلان وفاة يتم تعليقه على أحد حوائط ماسبيرو لتعرف شجرة العائلة التي امتدت جذورها إلى كل القطاعات، ستجد المتوفى والد فلان الذي يعمل بالتليفزيون وفلانة التي تعمل بالإذاعة، أما أبناء العم والخال والخالة ستجدهم في الإنتاج والأمن والمالية وغيرها، وفي القنوات الخاصة ستجد كل المعايير قد ضرب بها عرض الحائط، وإن اختلفت بعض الشيء عن ماسبيرو، حيث يتحكم (الهوى) في العديد من الاختيارات.
أما العمل في القضاء فيكفي الجملة التي أطاحت بأحد وزراء العدل عندما تحدث بموضوعية عن معايير التعيين في النيابة، ويكفي أيضًا إعلان في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام لمعرفة شجرة العائلة التي يعمل أغلبها في مجال القضاء، ثم اذهب إلى إعلان وفاة آخر ربما في الصفحة نفسها عن وفاة أحد اللواءات لتتأكد أن أغلب أفراد العائلة اتخذوا المجال نفسه، حتى بعض من يرفعون شعار الدين يصابون بالشيزوفرينيا ويتناسون العدالة عندما تطال خاصتهم، ووقفة أمام تعيينات في مجالات تشتد فيها المنافسة ستجد مئات التوصيات من نواب في البرلمان يشهرون سيف العدالة ثم يلقوه أرضًا أمام من يخصهم.
لا أعرف إذا كان هذا النوع من الشيزوفرينيا مرضًا يستحق العلاج أم أنه طبيعة بشرية؟ هل نلتمس مثلًا العذر لأب يسعى إلى ضمانة لمستقبل ابنه، لذلك وضعه في مكانة يستحقها غيره؟ إذا كان ذلك مرضًا فجميعنا يستحق العلاج، وإذا كان فسادًا فكلنا فاسدون.
في تاريخ مصر الحديث لم يكن لهذه الشيزوفرينيا وجود، والدليل على ذلك أن كل من حكموا مصر ينتمون لأسر بسيطة، بداية من عبد الناصر وانتهاء بالسيسي، حتى الأسماء اللامعة من وزراء ومحافظين وقضاة وأساتذة جامعات أبناء لأسر لم تعرف طريقًا للواسطة، فهل نحن بحاجة إلى التحلي بأخلاقيات الماضي للتخلص من حالة الفصام التي نعاني منها ؟
basher_hassan@hotmail.com