حكايات من سيرة الرسول
روى الشيخان وغيرُهما، أنه حينما انتصر المسلمون في يَوْم حُنَيْنٍ، في شوالَ من السنة الثامنة من الهجرة، غَنِمَ المسلمون منهم غنيمةً عظيمة، فقَسَمَها النبي صلى الله عليه وسلم فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وهم كبار القوم الذين أسلموا حديثًا، فأَعْطَى أَبَا سُفْيَان، وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَع، وَسُهَيْل بْن عَمْرو وغيرَهم، وهم من كبار كفار قريش، الذين طالما حاربوه وقاتلوه، لكنهم أسلموا قبل قسْم الغيمة بأيَّامٍ قليلةٍ فقط.
وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم لنصرة الإسلام، والدفاعِ عن رسول الأنام شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا في أنفسهم، إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، وقالوا بحسرةٍ وأسى: سُيُوفنَا تَقْطُر مِنْ دِمَائِهِمْ، وَهُمْ يَذْهَبُونَ بِالْمَغْنَمِ!!
فلم يتمالك سَعْد بْنُ عُبَادَةَ -رضي الله عنه- نفسه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لِيصارحه ويُخبره بما يجول في خواطر الناس، فلما أخبره بذلك، تعجَّب كيف حلَّ ذلك في قلوبهم، وقَالَ لَهُ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْد؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا مِنْ قَوْمِي.. فقَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمك، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ فَقَالَ: مَا حَدِيث بَلَغَنِي عَنْكُم
فَخَطَبَهُمْ خطبة بليغةً عجيبة، وقَالَ لهم: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ما مقالةٌ بلَغتني عنكم، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي، ألم تكونوا مشركين تائهين ضائعين، فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي، كنتم متفرقين متناحرين، يقتلُ بعضُكم بعضا، فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي، كنتم فُقَرَاء مُعْدَمين لَا مَال لَكم، فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي، ثم قال لهم: مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالُوا ودموعُهم تسيل على خدُدِهم: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، ثم قَالَ: أَمَا وَاَللَّه لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاك، كذبك كفار مكة وكلُّ الناس فَصَدَّقْنَاك، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك، خذلَتك قبيلتك وقومك فَنَصَرْنَاك وأيَّدناك، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك، طردوك وشرَّدوك فَآوَيْنَاك وحميناك، وَعَائِلًا فَوَاسَيْنَاك، فقيرا مُعْدَما فَوَاسَيْنَاك بكل ما نملك، فلما قال هذا الكلام العظيم لهم، جعلوا يقولون: بَلِ الْمَنّ عَلَيْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
ثم قال: أَما تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ برسول اللَّهُ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ أما يُرضيكم أن أُعطي الناس شيئا من تفاهة الدنيا، وأغناما ودُرَيهمات، وأعطيكم أنتم نفسي ووقتي، وأجعلُكم أهلي وخاصَّتي، ثم قال لهم: لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَار، ثم قال لهم: وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، ثم قال لهم: الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ..
ثم قال لهم: اللَّهُمَّ اِرْحَمْ الْأَنْصَار وَأَبْنَاء الْأَنْصَار، وَأَبْنَاء أَبْنَاء الْأَنْصَار، وبعد أن سمع الصحابة هذا الكلام العظيم، بَكَوا رضي الله عنهم وأرضاهم بكاءً شديدا، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّه قَسْمَا وَحَظًّا.