رئيس التحرير
عصام كامل

الإمام والرئيس


أغلب الظن أن مراهقي القلم اصطنعوا أزمة بين الرئيس والإمام دون مبرر، فما قاله الرئيس في احتفالية المولد النبوي الشريف هو هموم مواطن مسلم متدين يرى أن تجديد الخطاب الديني أمر أصبح ضرورة، وما قاله الإمام في كلمته لم يكن ردًّا جاهزًا على ارتجال الرئيس ولا يتعارض معه.. الذين ظنوا أو اصطنعوا خلافًا صالوا وجالوا بكتابات أبلغ وصف لها أنها مجرد "شخبطات صبيانية" أراد أصحابُها أن يجدوا لأنفسهم دورًا بالنيل من قامة الإمام الدكتور أحمد الطيب.


وقد أدت هذه الشخبطات إلى سيل عارم من السباب على شبكات التواصل الاجتماعي، وأصبح الأمر الجلل-تجديد الخطاب الديني- طرحًا ساذجًا بين العوام وبالطبع كانت كتائب جماعة الإخوان على الخط تجد فيما يحدث ضالتها المنشودة ونصبوا المشانق للنظام في مصر، بل ووصل الأمر ببعضهم إلى استغلال معركة وهمية للانحراف بما حدث عن مقاصده وتاهت القضية الأم بين سجالات فارغة.

والأدلة على أن الإمام مهموم بما يهتم به كل مسلم في بلاد الإسلام، ومنهم المواطن عبد الفتاح السيسي أن الشيخ كان من أوائل من طرحوا فكرة إعادة التفكير في الخطاب الإسلامي بعد مرور ثلاث سنوات على أحداث ١١ سبتمبر، عندما قال "لقد أدركنا أننا بحاجة إلى التجديد"، وهو الأمر الذي قاده الشيخ بانفتاح جامعة الأزهر على جامعات أوروبية وقيادته لحوار الأديان وموقفه الصلب في ذات الوقت ضد بابا الفاتيكان بنديكت عندما تطاول على الإسلام.

وللتدليل على ما أقول إنني جمعتني أكثر من مناسبة للالتقاء بفقيه عظيم رحل عن دنيانا هو الأستاذ الدكتور "طه جابر العلواني" وهو الذي جاء من كتاتيب الفلوجة بالعراق ليلتحق بالأزهر الشريف حتى حصوله على الدكتوراه ثم سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإنشائه جامعة قرطبة، وقد عاصر جيلًا من شباب المسلمين رآهم بأم عينيه منكفئين على ذواتهم وغير مندمجين في المجتمع الأمريكي فقاد حركة تصحيح مدهشة للتعاطي مع الآخر فكانت له تجربته التجديدية المهمة.

قال لي الدكتور "طه" رحمه الله بعد عودته للقاهرة وإقامته في ضاحية الزمالك، إن حوارات تجمعه بشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قوامها كان يدور حول هموم الإمام بقضية التجديد.. كان "العلواني" صاحب رؤية في عرض السنة النبوية على القرآن الكريم فما توافق معه أخذناه وما تنافر معه تركناه، وكان يرى أن أهم قضية في تجديد الخطاب الديني هي قضية الحاكمية وهي القضية التي لو وصلنا فيها إلى اجتهادات ناضجة استطعنا أن نفك الارتباط بين الدين والسياسة.

وحسب ظني أن كثيرين ممن يتحدثون عن تجديد الخطاب الديني لا يعون جيدا الأطر المحيطة بفكرة التجديد والمناخ السائد فيختصرون الأمر في البخاري ومن ثم يقعون في المحظور، والمحظور هو التناول السطحي لقضية لا يمكن الاعتقاد أن أمرا يصدر بشأنها فيكون التجديد جاهزا بين يوم وليلة.. المناخ السياسي وقدرة المجتمع على تقبل الحوار حول قضايا جامدة منذ مئات السنين وجاهزية هذا المجتمع لتقبل الأفكار التي سيطرحها نقاش المفكرين والفقهاء أمر لا يمكن تجنبه أو اعتباره قضية ثانوية.

من حق الرئيس كمواطن ومسئول ومسلم أن يعبر عن مخاوفه من جمود الأمر ولما لا وهو واحد من كتيبة الدفاع التي استجابت لحركة الجماهير عندما تسرب إلى الشعب أننا أمام جماعة إنما تريد انتزاع مصر من هويتها وتفكيك جيشها والسيطرة عليها بمليشيات ظلت تقوم على تجهيزها على مدى سنوات طويلة من أجل إحكام السيطرة على مقاليدها ومفاصلها ومن ثم المغامرة بثوابتها من أجل الحكم ولا شيء غير الحكم.

ومن حق الإمام أن يفكر مليًّا حول موجات المطالبة بالتجديد لفرز الغث من السمين ومواجهة دعوات التغريب والتحريف، خاصة أن من يتصدون للأمر لا يدركون أبعاده، حيث لم تطرح حتى تاريخه سوى أفكار مبعثرة لا تضمن مشروعا متكاملا يناقش بكل حرية قضايا مهمة، وعلى رأسها القضية الأم التي أنتجت كل أفكار التطرف والتشدد وهي قضية الحاكمية التي يمكن من خلالها الغوص في أعماق مشروع متكامل لتجديد الخطاب الديني.

على أن المعركة الوهمية التي أنتجتها أقلام سطحية بين الرئيس والإمام إنما تعبر عن أجواء غير صحية من شأنها أن تشعل النار لا أن تطفئها وقد ظهر بوضوح أن الأمر لم يطرح لنقاش ناضج بقدر ما أنتج من سباب وإهانات لا نظن أنها أرضية قادرة على استيعاب فكرة النقاش أو إتاحة الفرصة أمام جيل من الفقهاء والمفكرين بالتأكيد لديهم ما لدينا من هواجس ومخاوف وهموم ترتبط بجمود الخطاب الديني.

إن صدق النوايا وتوفر الإرادة والقدرة على اقتحام الملف دون خوف هي من بواعث خلق أرضية حيوية لنقاش جاد بعيدا عن التطاول والتهوين والتخوين، خاصة أن ما يحدث في العالم من تغييرات جذرية يفرض علينا أن نبدأ اليوم قبل الغد، شريطة أن يحتفظ أصحاب الرؤي الساذجة بأعصابهم دون أن نمنعهم من طرح ما لديهم ودون أن يحولوا الأمر إلى سجال من الهجوم دون مبرر.
الجريدة الرسمية