صناعة الخوف
الحديث عن إعلام الصوت الواحد أصبح الوجبة الرئيسية على كل الموائد التي يلتف حولها الصحفيون، والخوف من بطش السلطة صار القاسم المشترك بين أغلب الإعلاميين، والحرمان من الجلوس أمام الكاميرا بات العقاب الذي يطارد العديد من المذيعين، هذه الحالة يعيشها من يمتهنون كل ألوان الصحافة، يجاهرون بها أحيانًا ويهمسون بها أحيانًا أخرى، وكاذب من يدعي غير ذلك، وجاهل من يحاول المزايدة على تلك الحالة..
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نعيش بالفعل عصر الصوت الواحد؟ وهل تبطش السلطة بالأصوات المعارضة؟ وهل الحرمان من الكاميرا أصبح عقابًا للمذيع الذي يشذ عن القاعدة؟ إجابتي قطعًا بالنفي، والعجلة في تقييم موقفي هي استمرار للأخطاء التي ارتكبناها في حق أنفسنا كصحفيين، أعلم أن أسماء العديد من المذيعين المستبعدين سوف تتبادر إلى الأذهان، لكن القراءة حتى النهاية ربما تحمل قناعات أخرى غير التي رسخت في الأذهان.
من صنع حالة الخوف هم الصحفيون، وهم أيضًا من زايدوا على النظام وسوقوا للصوت الواحد، فأساءوا للإعلام وأصبحوا عبئًا على النظام. بعض النماذج بيننا (يعرفها الجميع) ادعت كذبًا قربها من النظام، وبصورة التقطها مع مسئول يستطيع أن يسوق لادعائه، و(ببجاحة) يسمح لنفسه التحدث باسمه، هذه النماذج موجودة في الصحف والقنوات، تهمس في آذان المسئولين عن النشر أو الإذاعة بعدم الخوض في موضوعات معينة، يستجيب المسئول على الفور ويتعامل مع الأمر على أنه تعليمات ويجاهر بها..
وأحيانا يدعي أن مسئولًا كبيرًا إتصل به. الشخص نفسه الذي يهمس في الآذان أصبح لديه القدرة على استبعاد عناصر من العمل لأسباب شخصية وعلى المسئول في القناة أن ينفذ أوامره لأنها من وجهة نظره تعليمات إذا تقاعس عن تنفيذها سوف يفقد منصبه.
أما أصحاب القنوات فكانوا الأسرع في خلق هذه الحالة من الخوف، لا لوطنيتهم.. ولكن لأن أغلبهم على رأسه (بطحة) وقد استغل قناصة بيزنس الإعلام هذه "البطحة" فأقنعوهم أنهم الأقرب لصانع القرار، وأنهم يتلقون التعليمات من مسئولين كبار، وأنهم قادرون على فتح قنوات اتصال بينهم وبين الكبار، فسلمهم أصحاب القنوات الخريطة البرامجية يعبثون بها، وخصصوا لهم رواتب لم يكن أحدهم يحلم بها، ولو فكر هؤلاء لحظة واحدة لأدركوا أنهم وقعوا فريسة لنصابين، لأن العصر تغير..
والبيزنس الذي حققوه من خلال قنواتهم بقربهم من الأنظمة السابقة لن يحققوه مع النظام الحالي، فلا فواتير لديه مستحقة السداد، جملة قالها السيسي، لا يريد التوقف أمامها من تاجروا بالإعلام.
فرق كبير بين المعارضة والسباب، فالأولى لها قواعد، والثانية وسيلة العاجز، الأولى لا تغضب النظام، والثانية من مخلفات فوضى السنوات الماضية التي انعكست على الإعلام، الأولى تستطيع أن تقول من خلالها ما تريد، لأنك تنطلق من أرضية وطنية، والثانية تنم عن جهل وقلة وعي.
لو كانت الدولة راضية عن إعلام الصوت الواحد لما أذاعت إعلانا على كل الشاشات (لا للتطبيل ولا للتقليل)، ولو كان السيسي راضيًا لما كان انتقاده للإعلام القاسم المشترك في كل المؤتمرات، لقد خلقت حالة الخوف التي صنعناها بأنفسنا إعلامًا مشوهًا، حتى صرنا عاجزين عن نقل رسائل الرئيس، وتلك كانت شكواه في منتدى شباب العالم.
لا أدعي أننا ننعم بحرية في الطرح والمناقشة، لكن الفترات العصيبة التي تمر بها الدول لها قواعد معينة في التناول الإعلامي، وما نمر به حاليًا لا بد من قواعد تحكمه خاصة في القضايا التي تتعلق بأمن مصر القومي، وكل من يمتهن الإعلام أو يتعاطى معه من منطلق وطني ليس بحاجة إلى (الهامسين في الآذان) الذين ساهموا في صناعة الخوف، لأن القواعد المعمول بها لا تصنعها تعليمات، لكن يصنعها ويلتزم بها ضمير الإعلامي الوطني.
أما تلك الأسماء التي استبعدت من الظهور على الشاشات فتستوجب طرح السؤال: هل كنا راضين عن أداء أغلبهم؟! قطعًا لم نكن راضين، فأغلبهم إما ظهر بطريقة عشوائية فكان عار على الإعلام وإساءة للإعلاميين.. أو يحمل أجندة شخصية تحقق له ما يريده حتى لو كان على حساب الدولة، وطالما طالبنا بتطهير الإعلام من النموذجين، بل إننا صفقنا لاستبعادهم، وننتظر استبعاد آخرين، وعودة قلة من المستبعدين الذين تحركهم وطنيتهم لا مصالحهم.
بقي أن نشير إلى من اعتادوا الهمس في الآذان مستخدمين أسماء الكبار، فهم يتساقطون الواحد تلو الآخر بعد أن افتضح أمرهم، منهم صحفيون ومذيعون وأصحاب قنوات، والباقي في طريقه إلى السقوط، لأنه لا يصح إلا الصحيح، فالخوف وهم، وإعلام الصوت الواحد بدعة من صنعوا الخوف.
basher_hassan@hotmail.com