مشروع لتطوير التعليم العالي والبحث العلمي (1)
سألني العديد زملائى من أساتذة الجامعات المصرية في نقاش مفتوح عن تصوري لكيفية تطوير التعليم الجامعي في مصر ليواكب الغرب والشرق المتقدم، من واقع خبرتي الطويلة في أعرق المؤسسات العلمية في العالم، وجولاتي في معظم دول العالم محاضرًا أو ناصحًا. فقلت لهم يجب الخوض في هذا المشروع بجرأة شديدة وبصراحة مع النفس وواقعية مثلما يحدث الآن مع التعليم الأولى.. فهل لدينا هذه الجرأة؟
قالوا هذا يعتمد على ماهو مقترح وإمكانية حدوثه. قلت: لدى تصور لمشروع متكامل لتطوير التعليم الجامعي سأوجزه لكم وهو مبني على ثلاثة ركائز أساسية:
أولا : سؤال بجرأة شديدة...التعليم الجامعي مجانًا أم لا؟!
ومشروعي المقترح لتطوير التعليم العالي يبدأ بسؤال في غاية الخطورة والشفافية: هل التعليم الجامعي مجانًا أم لا؟!.. فلقد أدخل عبد الناصر التعليم الجامعي المجاني بعدما أدخل طه حسين التعليم الثانوي المجاني وأحمد نجيب الهلالي التعليم الابتدائي المجاني وكان تعدادنا ربع ما نحن عليه الآن. فماذا كانت النتيجة الواقعية بعيدًا عن كل المثاليات؟
فقدت الدولة قدرتها على الصرف على التعليم قبل الجامعي والجامعي سواءً. ومع زيادة أعداد الطلاب تقلصت قدرة الدولة تمامًا عن الوفاء بالتزاماتها الاشتراكية.. فتدنت أجور المدرسين وأساتذة الجامعات لأقصى حد حتى وصلت إلى مستوى غير آدمي.. وأصابت الدولة تخمة من خريجي الجامعات الحكومية من أنصاف المتعلمين.. وأصبحوا بطالة مقنعة تملأ القهاوي وأرصفة الطرقات ولا تحمل في جعبتها سوى الإحباط وشهادات بلا قيمة.
كما تكدست المدرجات عن آخرها وفقد الطلاب وإلى الأبد المناخ التعليمي الجيد بالمقارنة بما كان عليه الحال حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي.. واستشرت الدروس الخصوصية لتعوض تدني المرتبات وتنخر في أساس التعليم بشراهة.. لتخلق تعليمًا موازيًا أكثر كلفة.
ثم ظهرت جامعات البيزنس الخاصة التي لا تبغي إلا المال على حساب جودة التعليم.. وهذه مأساة أخرى في حد ذاتها. لقد اهتمت الدولة للأسف بالكم قبل الكيف وأصبحت الجامعات مفرخة للشهادات بلا توقف تنتج الرديء إلا من رحم ربي. وانقرض مع كل ذلك التعليم الفني الصناعي والتجاري والزراعي وأصبحنا نلطم الخدود ولا نعرف كيف نصلح حال التعليم في أوله أو في آخره.
ولو نظرنا إلى معظم دول العالم المتقدم لوجدنا التعليم قبل الجامعي مجانًا وإلزاميًا لأهميته القصوى في إخراج جيل واع ذي كفاءة. أما الجامعات فمعظمها مؤسسات غير هادفة للربح لا تملكها الدول ولا تدعمها بمليم كجامعة هارفارد أو دوك أو إستانفورد أو جون هوبكنز وغيرهم من الجامعات العملاقة. أو ربما تملكها الولايات ولكن تدار بنفس الطريقة.
والأساس فيهم جميعًا أن الجامعة بمصاريف تتناسب مع ما يصرف عليها وتتلقي الجامعات بعض التبرعات من خريجيها وغيرهم ومن بعض الشركات واستثمارات ودائعها لتسند ميزانياتها.. ولكن لكل جامعة مطلق الحرية في تحديد الأعداد المقبولة بها والمصاريف التي توازن بها ميزانيتها بلا مكسب أو خسارة.
فلو وفرت الدولة المصرية الكم المهدر من المال على الجامعات ووجهته لتحسين مرتبات ومنشآت التعليم قبل الجامعي لارتقى التعليم ككل وبقوة. أما التعليم الجامعي فيقنن ليمنح الطالب المتفوق فقط منحة دراسية كاملة أو جزئية تغطي مصاريف دراسته.. أما الطالب العادي فإما أن يحصل على قرض تعليمي ميسر يسدده بعد التخرج كما في الكثير من دول العالم مما يدفعه للدراسة الجادة والتفوق الذي يؤهله لعمل جيد يسدد به دينه الدراسي.. أو يدفع الطالب مصروفات الجامعة التي تقبله وعادة بشروط صعبة ومقابلة شخصية وسيرة ذاتية مع درجاته وتقديراته طوال سنين الدراسة.
إذا تحسن التعليم قبل الجامعي وتقلصت أعداد المقبولين في الجامعات وعملت الجامعات بميزانية متوازنة لنجحت تمامًا.. ولنا في طب مانشيستر في جامعة المنصورة مثالًا على ذلك.. وهو في تصوري مرحلة انتقالية جيدة ويمكن تكرارها بأسلوب تدريجي على مدار ٤-٥ سنوات في جميع الجامعات.
لقد نجحت كلية طب المنصورة الحكومية في تقديم نموذجًا جيدًا وجديدًا لجودة التعليم بمصروفات.. ولا يجب أن يبقى ما تقدمه كاستثناء بل يجب أن يصبح القاعدة. وحتى لا أُفهم خطأً فأنا لا أدعو لخصخصة الجامعات الحكومية ولكنها أصبحت واقعيًا كالقطاع العام الفاشل إداريًا والمرهق ماديًا والمكدس بالعمالة والبيروقراطية.. فلا يمكن لأحد الكليات مثلًا أن يكون نسبة أعضاء هيئة التدريس للطلاب ١ إلى ١٥ أو أقل ولا تكون أفضل كلية بالعالم!
لو تحولت الجامعات الحكومية إلى مؤسسات أهلية غير قابلة للربح وتدار كما تدار الشركات بمجلس إدارة كفء ومجلس أمناء يحرص على نجاح الجامعة فيرفع رواتب أعضاء هيئات التدريس أضعافًا مضاعفة.. ويشترط عليهم التفرغ التام للعملية التعليمية ويوقع معهم عقودًا محددة المدة وتجدد حسب الكفاءة والتقييم الجاد.. مع تقليص عدد الطلاب وعدد أعضاء هيئات التدريس وتفضيل أبناء المحافظة بخفض مصاريفهم بدعم محدود من المحافظة أو الدولة كما هو الحال بالخارج.
الجامعات الحكومية ستستمر في المشروع المقترح كجامعات للمحافظات تخدم أبنائها فقط بدعم من أبناء المحافظة وشركاتها والقادرين فيها ووَقْفًًْ الجامعة من المال حتى تتمكن من أن تعطي الكثير من المنح المجانية فتنخفض التكلفة ولكن بميزانية متوازنة بين دخل الجامعة ومصاريفها.
لو فعلنا ذلك وأجدناه لنجحت الجامعات نجاحًا كبيرًا وتطورت تطورًا ملحوظًا ولأخرجنا أجيالًا على مستوى عال من الكفاءة والمهارة. فهل نريد نحن هذا العدد من حاملي الشهادة الورقية؟ فرغم فارق الدخل وكفاءة التعليم فإن ٦٩،٧٪ فقط من خريجي المدارس الثانوية بالولايات المتحدة الأمريكية يدخلون الجامعة في السنوات الأخيرة.. ولا زال ٦٨٪ من الشعب الأمريكي لا يحمل شهادة جامعية.
وتقل نسبة طلاب الثانوي الملتحقين بالجامعة إلى ٤٥٪ في بريطانيا. أما عن الجامعات الخاصة بشكلها الحالي فهى في رأيي مرض مستحدث على التعليم العالي. فلا يوجد في أي مكان في العالم جامعات يملكها أفراد إلا بمصر!
فجامعات الترَّبُح الخاصة التي ظهرت بمصر مأسآة لا يوجد لها مثيل بالعالم! وهى كالدروس الخصوصية سرطانات أبتلينا بها لفشل سياسة التعليم فهى بوابة خلفية للقادر فقط دون النظر لجودتة المُقَدَّم أو المُقدَّم له. وهذا يختلف عن العالم أجمع. فالمتفوق والمتميز دون النظر لقدراته المالية يجب تعليمه مجانًا أو بمنح لا ترد في الجامعات الحكومية والخاصة والفاشل لا يقبل في أيهما مهما كانت قدرته.
بعض الدول تقرض الطلاب مصاريف الدراسة في مقابل العمل في الحكومة لعدة سنوات براتب متوسط وهذا ربما يتاح في هذا المشروع حسب حاجة الدولة!.. فالتعليم العالي بجودتة العالية والمأمولة يمنح فقط لمن يستحقه وينبغ فيه وليس لكل دان وقاص وقليل فاهم أهم وأثمر من غثاء جاهل.
ولكن من عنده الجرأة ليتمرد على نظام تعليم عالي لاقى الأمرين من التخبط والعشوائية لعقود من الزمن؟!!
نكمل في المقال القادم.