ميراث الحب
كان جالسا في المكتب المجاور لي في العمل، يرتشف قهوته الصباحية وهو ينظر إلى مجموعة من الأوراق أمامه، لكنه كان كمن لا يرى شيئا أو لا يسمع من حوله، فبادرته بالسؤال عن حاله، وكأنه ما لبث أن وجد صدرا وملاذا يمكن أن يتسع له ولكتلة الهموم بداخله.
حكى لي عن والده المتوفى الذي تصرف بعض التصرفات قبل وفاته بسنوات، أدت إلى قطيعة تامة بينه هو وأخوته الرجال من جانب، وشقيقته التي تعيش بالخارج من فترة طويلة من جانب آخر، لدرجة أنها تواجدت في البلاد بعد ما يقرب ١٥ عاما من الغربة، ولم تبلغ أحدًا من أخوتها بقدومها في محاولة إذابة جبل الجليد بينها وبينهم!.
سألته وما السبب في تلك القطيعة القاسية؟ فقال لي إن والده الراحل أخذ ميراثه وميراث إخوته الرجال من أمهم المتوفاة عنوة وأعطاه إلى أختهم التي كان يدللها كثيرا، وذلك دون رغبتهم وبقسوة بالغة عليهم، في تحدٍ لشرائع السماء بأداء الحقوق، وفعل الوالد ذلك تحت ضغط حبهم له ورغبتهم في عدم إغضابه، فانصاعوا وهم غير راضين لأن يروا حقوقهم وحقوق أبنائهم تذهب إلى أختهم التي لا تحتاج شيئا.
وأضاف: فعل أبي هذا تحت بند (أنا من سأحاسب أمام الله وأتحمل النتيجة أيا كانت)، وترك الفرصة للهوة والفجوة تتسع بين الأخوة شيئا فشيء وهم يطالبونه بميراثهم من أمهم لكن لا جدوى، ومن الجانب الآخر يعمق الكراهية في نفس ابنته تجاه إخوتها، قائلا إنه يخاف عليها من قسوة الزمن وإن المال وحده هو الذي يؤمنها، وفي الحقيقة كانت مساحات الغل والقسوة والكراهية بينها وبين إخوتها الرجال تتسع وتزيد، من حيث لا يدري.
كنت أنصت له وهو يروي لي كيف حاول هو وإخوته تذكير والده قبل وفاته أن أداء الحقوق وعودة الميراث لأصحابه سيٌصلح ذات البين، ويقضي على مساحات البغضاء والجفاء، ويقرب بين الإخوة وأختهم، خاصة أن متغيرات الزمن فرضت على الإخوة الرجال العديد من الضغوط المالية.
مات الأب، وازداد عداء الأخت لإخوتها إثر ما كان الأب يبثه في نفسها من استهانة بإخوتها الرجال، وكراهية لهم، وعدم توقير أو اعتبار، ما جعلها لا تأبه بأواصر المودة وصلة الرحم، مات تاركا «ميراثا ضخما من الكراهية» بين الأبناء يورثونه لأبنائهم وأبناء أبنائهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد كانت تكفيه كلمة واحدة وهو في أوج قوته أن أداء الحقوق سيٌطبق، وأن المحبة بين الأشقاء هي الباقية أبد الدهر، وأن هذا هو الميراث الحقيقي.
العدل بين الأبناء لا يكون في المال فقط، إنما أيضا في المحبة، في العطاء، في الطعام، في القبلة، في الكلمة الحسنة، في كل شيء وأي شيء بلا أي استثناء.
أقولها لنفسي وقد تعلمت من هذه الرواية الكثير والكثير، أن العدل بينهم، واجب مقدس سأفرضه على نفسي تجاه أولادي كي تستمر أسرتي متماسكة تعضد بعضها في الشدائد والأزمات، ولكي تستمر مساحات صلة الرحم الدائمة، وتزيد أرصدة المحبة الوافرة وتفيض، ولكي تستقيم أنفس سوية، تتنفس ميراث الحب، فاعدلوا بين أبنائكم حتى في القبلة والكلمة ومسحة الحنان والعطف، فلا ندري أن كلمة ظالمة وعنفوان زائل، قد تشرخ نفسا، وتترك جرحا داميا لا يشفى أبد الدهر.