رئيس التحرير
عصام كامل

كبيرة الكبائر.. التدنى!!


أخطر من السرقة، وأخطر من القتل، واسوأ من خيانة الأمانة.. التدنى هو الجريمة التي لا يعاقب عليها قانون، ولم يقترب منها المشرع رغم خطورتها التي قد تدوس قبل قيمة الإنسان قدر وطنه، التدنى جريمة طالت قيما عظمى في بلادنا، التدنى مغاير لمعنى التواضع، إذ التواضع نزول القيمة والقامة إلى الناس من أجل التفاعل معهم، لا مخاطبتهم من برجه العاجى.. بينما التدني هو فقد المرء لنخوته وقيمته لتحقيق مصالح بعينها.


عندما ينحنى المتحضر صاحب القيم التاريخية والحضارية أمام مال أو جاه فإن هذا هو التدنى، عندما تصف من لا يستحق بأوصاف ليست في أصله ولا تاريخه فإن هذا هو التدنى.. عندما تقدم الأقل ثقافيا وحضاريا عنك، وأنت صاحب القدر الكبير فإن هذا تدنٍ، عندما تنحنى لغير الله فإن هذا هو التدنى الأكبر.. عندما تنشد شعرا في أراذل الخلق، وتقول عنهم ما تعرف أنه ليس حقيقيا فإن هذا هو التدنى الأعظم.

والتدنى كبيرة ما بعدها كبيرة.. ليس هناك تدنٍ أصغر حتى لو كان تملقا لصاحب عمل من أجل سعة الرزق الوهمى، الرزق نكتسبه بعرقنا وهو سبب لنزوله من السماء.. عندما تبيع شعرا مبالغا فيه لتقوله فيمن لا يستحق فإن هذا تدنٍ مع سبق الإصرار والترصد، وقد عرفت كبيرة التدنى على مستوى الأفراد والدول، الأفراد عادة يرتكبونه من أجل مال أو جاه، والتملق غير التدنى، لأن التدنى يعنى أن قدرك أعلى فتتنازل عنه لتتدنى، أما التملق فتغيب عن مرتكبه صفة العلو.

انظر حولك تعرف حجم هذه الكبيرة التي لم تخضع لقانون العقوبات، انظر لتعرف أين وصل بنا التدنى.. حيث أدى بنا إلى تغيير حقائق التاريخ والجغرافيا، وأصبحت الكبرى صغرى والصغرى كبرى، تغيرت الأحجام والأوزان عندما تنازل الكبير عن قدره ليترك الساحة للصغار، ظهر ما يمكن أن نسميه صبيان العهد الجديد، والصبية عادة ما يرتكبون الكثير تحت غطاء المصلحة.

التدنى يعنى عدم معرفة المتدني لقدره، واستهانته بما حباه الله من ملكات جعلته عاليا، فاختار أن يسقط في مستنقع الازدراء، وقد يكون عالما بقدره، عارفا بما هو عليه غير أنه لمصلحة أو لمال أو جاه يختار أن يعلى من قدر المنحط، ويهوي هو إلى هوة الانحطاط، وقد يتدنى المتدنى بما لا يملك فيتحدث باسم قوم أو قرية أو مدينة أو وطن، ينزل بوطنه إلى الحضيض ليصبح "مداسا" لمن هم في الحضيض فيصبحون هم الأعلى.

وحتى وقت قريب كان التدني مناقضا للحرية، فهي تعنى رفع قدر الإنسان وقيمته، والتدنى يدفع المرء للتنازل عن إنسانيته وقدره وقيمته، وربما يتنازل عن قدر وطنه وقيمته بين الأمم لتحقيق أغراض خاصة.. وعندما ظهرت "الترامبية" بدا للتدنى أصول جديدة فدونالد ترامب المنتمى لدولة تعلي من قدر الحريات ولو شكليا، مارس التدنى نموذجا حياتيا، بل وفرضه على أمم ودول وجماعات وأفراد.

ولكن هل يوجد متدنٍ يفرض على غيره أن يتدنى ليعلى من قدره؟ نعم هناك من يرتكب جريمة التدني، ويظهر بها أمام العالم غير أنه على نحو آخر يفرضها على غيرها لصالحه هو فيصبح متدنيا هناك وذا قدر هنا.. تتبدل الأدوار والجريمة واحدة، وقد يكون التدنى بإعلاء قدرك وإسقاط قدر الناس وتاريخهم وعاداتهم وحضارتهم، فتتهمهم بما ليس فيهم وتفرض عليهم أوصافا ليست لهم.

وأخطر أنواع التدنى أن يمارسه شخص باسم أمة أو جماعة أو وطن، لصالح أمم أو جماعات، أو أوطان أخرى، ليحقق لنفسه نفعا ماديا.. ومكافأة التدني لا تكون معنوية، بل عادة ما يكون جزاء المتدنى أموالا أو أطيانا أو ذهبا أو هدايا مادية، كلما ارتفعت أثمانها سقطت هامة مرتكبها أكثر فأكثر!!
الجريدة الرسمية