رئيس التحرير
عصام كامل

عندما تصبح الديكتاتورية مهنة شاقة


مضت على البشرية عصور من الديكتاتورية كان لسان حال الحكم يردد دوما "شعبي وأنا حر فيه" يفعل الحاكم ما يراه مناسبًا له وليس هناك فارق بين ما يناسبه أو مصلحته ومصلحة العباد.. الوطن والحاكم قطعة واحدة لا فرق بينهما.. هواه هو هوى الوطن وشقاؤه شقاء الوطن وما يراه لا يُرى غيره.. لا أريكم إلا ما أرى.. تقتل جماعات من الشعب وأفراد من الجماهير كل ذلك حمايةً للوطن أو للحكام فكلاهما معنى واحد.


تغيرت الدنيا وانقلب الحال ولم يعد الديكتاتور قادرًا على هذا الخلط.. ليس بفضل تقدم الإنسان على مستوى الفهم ودفاعه عن حريته بقدر ما هو تقدم التكنولوجيا.. كاميرات الشوارع أصبحت تُحاكم الحاكم والشرطي وتُقدم للناس صورةً لواقع الأحداث.. تكنولوجيا الهواتف الذكية أصبحت شراكا تنصب لكل من أراد بالناس سوءا.. برامج الإنترنت والسوشيال ميديا أصبحت محاكم تبث واقع الشعوب على الهواء مباشرة.

أقمار صناعية تنقل صورًا حية لرجل يضاجع زوجته.. لم يعد هناك سر أو مؤامرة مخفية.. أو قتل خارج حدود الصمت الذي يرغبه صناع التكنولوجيا.. فيس بوك وآبل وجوجل نماذج لخزانة أسرار الكون.. تحدد موقعك.. تسجل رغباتك.. تسمعك صوتك إذا حاولت أن تتجاهل شراكتهم لأنفاسك.. كل شيء في كتاب أو على قرص تخزين أو هناك على سيرفر يجمع ملايين الحكايات والأسرار والتفاصيل.

آيفون يستطيع أن يفعل ما لا تفعله أجهزة استخبارات توظف مئات البشر.. ساعة يد يمكنها أن تنقل للعالم متى توقف نبضك.. متى قضيت حاجتك وأين رحلت.. تنقل صوتك للناس وتسمع البشر آهاتك أو عبراتك أو سكناتك أو استغاثاتك!!

لم تعد مهنة الديكتاتور سهلة على أصحابها بعد أن دست التقنيات أنفها في صميم عملهم.. أضحى الديكتاتور مسكينا، غلبانًا، مراقبا مثل الرعية.. أصبحت هناك قوى أكبر من قدرات براميل حمض الكبريتيك التي نهشت لحوم ملايين البشر في عصور سابقة.. أصبح الديكتاتور محاصرا بكل من هب ودب وتغير الحال من "شعبي وأنا حر فيه" إلى المأثور الخالد عن مجرمة التاريخ ريا "قطيعة ماحدش بياكلها بالساهل"!!

كان الديكتاتور في عصور العتمة والحدود والحصار والرقابة البشرية يفعل ما يريد متجاهلا أن للكون ربا يسجل كل شاردة أو واردة.. كان يتجاهل خالق الكون وخالقه وخالق ضحيته.. تغير الحال أمام شيطان التكنولوجيا المارق الذي لا يستر جريمة ولا يتستر على خطف أو تعذيب أو قتل.. سنوات قليلة مقبلة تنتهي تماما فكرة الديكتاتورية بعد أن تصل التكنولوجيا إلى تسجيل نوايا الناس ومؤامراتهم قبل وقوعها.

سنرى يوما حاكما مقبوضا عليه بتهمة النية في قتل معارضيه أو التفكير في تعذيب مناهضيه أو الحلم ليلا أنه تخلص من مناوئيه إلا إذا دفع ثمن السكوت وعادة سيكون ثمن الصمت مقدرات بلاده أو قرار وطنه أو ثروات شعبه.. سنرى كيف تتغير مفاهيم الديكتاتورية بتغير رعاتها وطلباتهم.. سنحكم وفق ما يرى جوجل أو يقرر آيفون أو يوحي فيس بوك.. سيصبح الديكتاتور عميلا للتكنولوجيا وما تنتجه من أدوات تستر أو سكوت أو صمت.
الجريدة الرسمية