رئيس التحرير
عصام كامل

دموع في الإسكندرية!


جاء صوتها عبر الهاتف في إحدى حلقات برنامجنا الإذاعي وفي حلقة كل إثنين التي نخصصها للحوار مع المستمعين حول إحدى القضايا العامة لنُوحدهم في موضوع واحد بعد أن استهلكهم الإعلام الآخر في قضايا خلافية.. كان صوتها قويا وقورا متزنا.. زاد تَوقيرنا لها بعد أن عرفنا عمرها الذي وصل الثمانين.. حيت مبادرة مواجهة فيروس سي ثم فاجأتنا على الهواء بقولها إنها لا تجد ثمن العلاج ولا تتحرك من بيتها فكيف يأتيها العلاج؟!


كان طبيعيا أن نعيدها إلى كنترول البرنامج الذي تركت عند رئيس تحريره الزميل العزيز أشرف البهي رقم هاتفها لكي أتحدث إليها عقب الحلقة.. وقد كان!

الصوت الوقور المتزن القوي ينهار.. شلال من الدموع ينفجر فجأة.. ليست الأزمة في معاش بسيط ينفق بالكامل على إيجار الشقة وفواتير الكهرباء والماء والغاز لتصبح أمام المعادلة الصعبة.. دواء لعدة أمراض ولا تأكل ولا تشرب.. أو تأكل وتشرب دون الدواء!

كان ذلك تفاصيل إضافية لسبب مداخلة البرنامج الهاتفية.. إنما سبب الدموع جحود الأبناء.. ابن وحيد أنفقت عليه كل ما ملكته.. حتى تخرج في كلية الصيدلة.. ثم رفضت أن يرتضي بشهادته فأنفقت عليه للحصول على الماجستير فهو وحيدها ووالده في ذمة الله منذ سنوات.. حتى حصل على شهادة أخرى فوق عليا أهلته ليَعمل في شركة شهيرة جدا ومع ذلك تقسم بأنفاس مختلطة بالدموع مختنقة بهروب الأكسجين منها في لحظات بائسة أنه لم يعرض ولو لمرة واحدة أن يوفر لها الدواء!

فقط الدواء! بل منع إحدى زوجتيه من زيارتها وبرها بعد أن تعاطفت معها!.. وتقسم أنه لم يزرها مرة واحدة منذ سنوات طويلة ولا تجد منه إلا الصوت العالي عبر الهاتف كي لا تسأل عنه وإن ترك زوجته في حالها ولا تُحادثها مرة أخرى!

عجوز الإسكندرية الطيبة تبكي أكثر وهي تمدح جيرانها.. فهذه إحداهن تذهب إليها لإعطائها الدواء وتلك تصعد إليها بتعليمات مشددة من زوجها الطيب لإعداد الطعام لها.. وأخريات يتناوبن على زيارتها.. لم تزل الدنيا بخير.. لم يزل المصريون على إنسانيتهم وشهامتهم.. لم يزل تسارعهم إلى الخيرات قائما.. لكن تبقى معاناة المسكينة الطيبة قائما.. خصوصا أن تتذكر أسرتها العريقة ومنهم من قدموا للوطن خدمات جليلة لكن لخصت ذلك في نوبة بكاء جديدة وتقول بألم.. ونسمع في تألم "ارحموا عزيز قوم..."!

المأساة بكاملها نرفعها لمحافظ الإسكندرية وما وصلنا يشي بشهامته وإنسانيته.. ومنه يجوز الاتصال بمديريات التضامن والصحة.. أو نرفعها إليهم ومنهم إلى محافظ الإسكندرية.. ونحتفظ بهاتفها لمن يعنيه الأمر.. وظننا -وليس كل الظن إثم - إنهم كثيرون جدا!
الجريدة الرسمية