ياريت
لا يستأذن ولا يُعطي تنبيهًا أو إشارة، لا يُمهد أو يُرسل خطابًا بعلم الوصول بقدومه في الطريق، منفذًا قدر الله عز وجل في خلقه، والمكتوب على جبين الإنسان منذ مولده.
يحكي أحد زملاء المهنة عبر صفحته على «فيس بوك» عن وفاة الزميلة الصحفية الشابة الراحلة هند موسى، مؤخرًا إثر حادث سير مُوجع أليم: «هند كانت خارجة من المركز الصحفي وفي طريقها للعربية اللي هَتركبها، وشافتني وأنا جاي من بعيد مع محمود، نادت عليا وشاورت لي بإيدها وبتعمل لي "باي باي"، وقتها كنت مشغولًا في الكلام مع محمود، وما كلفتش خاطري حتى إني أبص ليها أو أشاور لها على اعتبار أني كده كده كام ساعة وأشوفها في حفل الختام..
وانتهى اليوم وماشفتش هند في حفل الختام، شفتها بعد موقف التحية ده مرتين، الأولى الساعة 2 ظهر يوم السبت وهي في كيس داخل عربية الإسعاف قبل ما تتحرك لثلاجة حفظ الموتى، والثانية الساعة 7 المغرب وهم بيطلعوا كيس الجثمان من التلاجة عشان أخوها يشوفها».
ويكمل: «مكنتش أعرف أنها وهي بتشاور ليا يوم الجمعة أنها هي دي النهاية وأنها بتشاور ليا لآخر مرة، أنا مستغرب نفسي جدا أنا ليه ما سلمتش عليها مع إني لو رفعت أيدي ليها كان الموضوع خلص، يا ترى حصل كده عشان أفضل حاسس بتأنيب الضمير وأفضل فاكرك يا صديقتي الطيبة لآخر يوم في عمري، أنا عارف أن هند مش زعلانة مني ولا عمرها ما هتزعل مني، ربنا يرحمك يا هند وتكوني حاسة بحبنا ليكي».
وهذا صديق آخر، وقد كان يعتصر دموعه بألم وهو يحكي لي بعد مغادرة والده الحياة منذ أسبوع: «بابا كلمني في التليفون وقالي تعالى بدري، ما تقلقش أنا كويس بس عايزك في موضوع مهم حاول تستأذن وتيجي، فرديت عليه وقلت له معلش يا بابا قول إيه الموضوع في التليفون لأن ورايا شغل كتير وممكن ماعرفش أجي بدري..
فقال لي أختك جت هي وعيالها ومامتك عاملة أكل حلو النهاردة ونفسي نأكل سوا أنا مش بشوفك خالص، رديت عليه وقلت له معلش يا بابا سلم لي عليها وأنا هخلص شغل وأجي، رد بابا وقال لي: ربنا يعينك يابني تيجي بالسلامة»..
بكى صديقي بحرقة وهو يقول لي: «بعد أكثر من كذا ساعة لقيت أختي بتتصل بإلحاح وكل ما أكنسل عليها تتصل تاني، وبعدين اضطريت أرد عليها، لقيتها بتقولي إنا لله وإنا إليه راجعون يا محمد... بابا تعيش أنت يا محمد».
وتحكي أخرى في حزن بالغ: «بابا قبل ما يموت بيسلم عليا وهو نازل من البيت، وأنا ماخدتش بالي كنت مشغولة في متابعة الفيس، وبعد ما نزل، مفيش خمس دقائق، تلفوني رن ولقيت واحد بيقول لي صاحب التليفون ده مرمي في الشارع».
وتقول صديقة أخرى: «بابا رن عليَّ قبل ما يموت، قلت هخلص حاجة كنت بعملها وأرجع أكلمه على روقان، اتصلت بيه بعدها لقيت دوشة في البيت وحد بيقولي باباكي مات، وكأنه كان متصل يودعني، عندي تأنيب ضمير لأبعد الحدود، ومن بعدها برد على تليفوني في أي مكان في أي وقت بس بردوا مش مستريحة».
هو الوجع والندم في أبشع صوره، تدفعنا مشاغل الحياة الزائلة إلى الاستهانة بوجود الأحباب، والثقة في بقائهم، وضمانة استمراريتهم، فنلهو وننصرف ونغضب ونقسو ونُؤلم ونعصي، وننسي في لحظة أن الموت سيحل بديلا عنهم يوما ما، يلاحقنا بثوبه الأسود ليذكرنا أنهم كانوا أمام أعيننا، وبين أيدينا، وما استمتعنا بصحبتهم، وما ارتوينا بِعطفهم وحنانهم، وما تدثرنا بلحظات محبتهم الصافية، التي كانت جُل ما تريده منا الاطمئنان والأمان والوداع قبل الرحيل، قبل أن يذهبوا من دار الباطل إلى دار الحق، قبل أن يَشكرونا ونشكرهم على لحظات السعادة التي عاشوها وعِشناها معهم.
احضنوا أهلكم، لا تهملوا أحبتكم، تعاملوا معهم دائما في كل لقاء، أنه هو اللقاء الأخير، وحينها ستصفو النوايا، وتنتهي الخصومة، ويزول الحزن، ويذهب التناحر وتتهاوى الأحقاد، استمتعوا باللقاء الأخير قبل أن نقول في ندم.. «ياريت».
يقول عز وجل في محكم التنزيل الحكيم، بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير)، صدق الله العظيم.