رئيس التحرير
عصام كامل

مشاهد لا تُنسى مع "القديس الصغير" سيد فتحى


"يا حسين.. انزل قسم الزيتون حالا هات فتحى فريد من هناك.. هو لسه واخد إخلاء سبيل من النيابة". بصيغة الأمر قالها لى الراحل سيد فتحى المحامى لأترك بيتى فجرا وأذهب إلى القسم وأدخل مكتب معاون المباحث مستفسرا عن موقف الشاب الجامعى المتهم بتوزيع ونشر ملصقات حركة كفاية التى تحمل عبارة "لا للتمديد.. لا للتوريث.. حكم مبارك باطل".


الواقعة جاءت بعد أسابيع من تدخل الراحل فى قضية اتهامى بالاعتداء على اثنين من بلطجية الحزب الوطنى بالزيتون، وحصولى على البراءة فى واقعة كنت مجنيا على فيها عام 2005، وقتها حضر أمام قاضى الجنح برفقة المحامين أحمد راغب ومحسن البهنسى، ليتراجع المدعى بالحق المدنى للبلطجية عن إثبات حضوره فى وجود "مثلث الرعب الحقوقى".

موقف "القديس الصغير" جعلنى أكثر اعتمادا على نفسى فى مشاهد أكثر صعوبة، وكانت لقاءاتى معه على مقهى سنان باعتبارنا سكان حى واحد ذات أثر كبير فى فهم أبعاد التكامل الحقوقى الصحفى لأجل حقوق الضحايا، لدرجة أننى أجدت من لهجته القانونية ما يكفينى للمرافعة حال غياب المحامى الخاص بى، أو الدفاع عن آخرين وتقديم بلاغات لهم ضد جلاديهم.

بمرور الوقت صرت أكثر استفزازا للراحل حينما أظهر أمامه صدفة بعد امتناعه عن الرد على اتصالى، قائلا: "الضحايا مش فى انتظارك يا أستاذ.. وأنا كتبت لهم البلاغ وقدمته وأسندته إلى مواد فى الإعلان العالمى والعهد الدولى واتفاقية مناهضة التعذيب وقانونى الإجراءات والعقوبات.. لو عاوز تكمل القضية ورايا معنديش مانع"، ليقع فى بركة من الضحك الهستيرى ساخرا "إوعى تفتح مكتب عرضحالجى جنبى يا حسين.. أنا عارفك صحفى وتعملها وتقطع علينا".

أما زملاء الشقاء فمنهم طاهر أبوالنصر رفيق البحث عن ضحايا التعذيب، والذى كان يقف متعجبا من بلاغاتى التى تحمل تأشيرة سريعة وغير متوقعة من مساعد النائب العام السابق، لتقوم النيابة باستدعاء الضحية وإحالته للطب الشرعى، بينما داهية التنظير القانونى طارق خاطر وراء كثير مما امتلكته من ثقافة قانونية ساعدتنى على صياغة تقارير صحفية وبلاغات لصالح ضحايا، ومحسن البهنسى الأشهر بين أسر المعتقلين، وقبلهم الداهية العجوز أحمد سيف الإسلام حمد شفاه الله.

لم يكن "سيد فتحى" مجرد محام بل كان إنسانا يتعامل مع قضايا المهمشين بقلبه ومشاعره، عشت معه ساعات على هامش جلسات عمل قضايا كبرى لمعتقلى تنظيمات دينية ورث عن أستاذه النبيل الهلالى أخلاقيات الدفاع عنهم وإثبات أنه أكثر نبلا منهم، وقضايا الفلاحين البسطاء فى سراندو ومحاميهم الشاب محمد عبدالعزيز، وقضايا العمال ضحايا الخصخصة ونهب المال العام المنظم.

خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة كنت أكرر الاتصال به ومداعبته على "فيس بوك" طالبا لقاءه، وكنت أكثر إصرارا على محاولة الجلوس معه لمناقشة أمور يستعصى على فهمها من أداء اليسار الضعيف بعد الثورة وصعود جماعات العنف والدين السياسى وتطور أدوات القمع السلطوى الممنهج على أيديهم، لكن لقاء "الندوة الثقافية" معه قبل أكثر من شهرين كان الأخير لنا قدرا، لم يعقبه أكثر من تعليقات إلكترونية آخرها على صورته مع محامين ناصريين أبرزهم سامح عاشور قبل وفاته بدقائق، يوقع معهم استمارات حملة "تمرد".

"القديس الصغير" الذى خسره الوطن والمواطن الضحية، رأيت وجهه الطفولى للمرة الأخيرة قبل ساعات على فراش الموت داخل بيته الصغير، يظل فضله على كثيرين ممن حوله أو يبعدون، وكانت ابتسامته الأوقع على وجهه إلى جوارى وزوجتى ليلة زفافنا قبل 5 سنوات، بعد أن كانت مشورته فاصلة فى اختيارى لها. رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته وعوض أسرته وأبناءه عنه خيرا.
الجريدة الرسمية