الصامدون والمنبطحون (٢)
ما زال صوتها يسكن أذني، وستظل ذاكرتي تختزن عباراتها التي حملت مع البكاء صراخًا، ومع التحذير خوفًا، ومع تفاصيل المؤامرة توثيقًا بالصوت والصورة:
(انقذوا مصر من الفوضى، إنهم يسعون لإسقاط الدولة لا النظام، كنت معهم وتدربنا سويًا في الخارج على ما يحدث الآن، سافرنا إلى صربيا وأمريكا وكان من بين من حاضروا لنا يهود، أنا أعلم أن القادم أسوأ، وأن ما تدربنا عليه هو إسقاط الشرطة ثم الجيش، سوف تنتقل الفوضى إلى المحافظات..
إنهم يخدعون البسطاء بشعارات تعلمناها في كل بلد سافرنا إليه، وليعلم الجميع أن المتظاهرين في ميدان التحرير اندس بينهم عناصر من أجهزة مخابرات عالمية، وبينهم أيضًا جواسيس، لقد استيقظ ضميري وأرغب في التحدث، فقط.. اضمنوا لي ولأسرتي الحماية منهم).
أذهلني ما سمعت، ونازعني الشعور بالتواطؤ إذا قررت الصمت.. والخشية من مغامرة السباحة ضد تيار يجرف كل من ثقلت موازينه أو خفت، فاطمأن قلبي للسباحة، واخترت أن أكون الرأي الآخر ولو من قبيل المهنية.
وما بين خوف تملكها ووازع وطني أيقظه ضميرها.. استقبلت الصحفية نجاة عبد الرحمن لتحل ضيفة في ذلك البرنامج (٤٨ ساعة) الذي أصبح بفضل إطلالتها حديث المنطقة العربية، وكنت قد تصفحت أوراقًا واطلعت على صور تؤكد ما قالته، وبمجرد ظهورها.. قامت الدنيا ولم تقعد، لتتحول نجاة ومذيعا البرنامج اللذين نخصهما لاحقًا بمساحة تليق بهما إلى ضحية حاولت كتائب وائل غنيم الإلكترونية وميليشيات الإخوان النيل منها..
وهو ما دفعني للظهور على الشاشة للتأكيد على أنني المسئول الوحيد عن استضافتها، ولست نادمًا على ذلك، ولو عاد الزمن لن أتردد لحظة في الدفع بها على الشاشة.
قالت نجاة عبد الرحمن كل ما أسمعته لي في اتصالها التليفوني، مدعومًا بالصور وتأشيرات سفرها إلى الخارج، وأكدت أن حركة (٦ أبريل) ومعهما بعض شباب الإخوان وضابط الشرطة الهارب (عمر عفيفي) تدعمهم جهات أجنبية وأخرى محلية.. لن يكتفوا بإسقاط النظام، ولن يهدأوا إلا إذا أسقطوا الدولة، وهذا ما تدربوا عليه منذ سنوات.
تحولت نجاة والبرنامج ومذيعيه ومعديه إلى مرمى لسهام حركة (٦ أبريل) يتقدمهم وائل غنيم، ويساعدهم شباب جماعة الإخوان وقياداتها، ويدعمهم جميعًا بعض منظمات المجتمع المدني التي فتح البرنامج ملفات تمويلها من الخارج.
بعد أيام من استضافة نجاة كشفت الأجهزة الأمنية عن الهوية الحقيقية لأشخاص تسللوا إلى ميدان التحرير من بوابة المراسلين الأجانب، ولعلنا نتذكر ذلك الشخص الذي رفع مع المتظاهرين لافتات تهاجم الرئيس الأمريكي وقتها باراك أوباما، بعدها صار صديقًا لبعض المتظاهرين، يتجول بهم بين المساجد، ويعيش معهم في المناطق المحيطة بوسط القاهرة..
أما الجاسوس (آلان ترابل) فهو أبرز من كشفته أجهزة الأمن، ومرت الأيام لتؤكد أحداثها صحة كل ما قالته الصحفية نجاة عبد الرحمن، حيث انتشرت الفوضى، وزاد سقف مطالب المتظاهرين حتى بعد تنحي مبارك، وما قاله الرئيس السيسي منذ شهور من أنه لن يسمح بالفوضى مرة أخرى، ولن يمكن من فشلوا في نشرها من إعادة إنتاجها.. ما هو إلا تأكيد لما قالته الصحفية وكشفت عنه الأجهزة الأمنية، وها هم أعضاء (٦ أبريل) يحلون ضيوفًا على السجون للأسباب نفسها التي تحدثت عنها نجاة عبد الرحمن التي لم ينصفها أحد حتى الآن رغم صمودها في وقت انبطح فيه الكثيرون ورضخوا لابتزاز دعاة الفوضى.
تحول الحديث عن الصحفية الصامدة والبرنامج إلى عورة، يتجنب المنبطحون الاقتراب منها، بل إن مذيعين وصحفيين زايدوا على الصحفية والبرنامج لإرضاء دعاة الفوضى، ورأينا مشاهد من مسرحيات ربما رسمتها أجهزة مخابراتية، كان أبرزها ذلك المشهد الذي بكى فيه وائل غنيم على الهواء، وبكت المذيعة، وربما تكشف الأيام عن كواليس عاشتها المذيعة مع من شاطرته البكاء وباقي شلته.
تهاوت هامات من كنا نظنهم أصحاب مبادئ تحت أقدام دعاة الفوضى، فجعلوا من وائل غنيم أيقونة، ومن أمثاله أبطالًا، انبطحت شخصيات صحفية أمامهم، ففتحت لهم الصحف لتجعل منهم كتابًا، وتخصص لهم ميزانيات ضخمة، وانبطح مذيعون فحولوا برامجهم إلى مرتع لمن تآمروا على الوطن، أما أصحاب القنوات فتبارون في نفاقهم، وتسابقوا للفوز بهم كدرع يحميهم من الكتائب الإلكترونية، حتى لو كان المقابل ملايين الجنيهات، بل إن بعضهم بالغ في الانبطاح فجعل من مرتزقة يناير مذيعين بمرتبات خيالية.
تفاصيل كثيرة نكشف عنها لاحقًا، خاصة بحكاية الصحفية التي قررت الصمود، وبهؤلاء المنبطحين الذين أصبح التغاضي عن بجاحتهم خيانة للوطن والمهنة.
basher_hassan@hotmail.com