كسرة مِش من خالتي آمنة
كنا نعاني ظروفا اقتصادية قاسية في أواخر حقبة السبعينيات المميزة بانفتاح السادات وبداية قهر الفقراء للأبد في أم الدنيا، وكان أغلبنا من أطفال المرحلة الابتدائية من أبناء الفقراء ومن جار عليهم زمن الرئيس المؤمن نذهب للمدرسة بشنطة قماش (كيسة يعني) ومريلة صفراء باهت لونها (مجربة) لا تسرُ الناظرين أبدا، وكنا نلجأ لخالتنا (آمنة) أمام رصيف المدرسة في حي أبي الريش العتيق بدمنهور..
مدججون بقرش صاغ أو (تعريفة)، نصف قرش أي واحد على 200 من الجنيه الحالي حتى تشبعنا وتُقيمنا لطلعة يوم مدرسي جديد، نشتري رغيفا أو كسرة خبز وبها شبه مِش، نعم ليس مشا خالصا أو جبنة قديمة لا سمح الله، أو حتى مش فعم بالدود اللذيذ، لكنها مسحة مش بائسة وبها قطع من قشر البرتقال أو اليوسفي أو مسحة من نارنج لمن كان ذو حظ عظيم!
كان نأكل ونحمد الله وكأننا كنا في الحاتي (الكبابجي) بس باللغة المصرية القديمة، طبعا لم يكن العم سام قد أرسل لنا بعد وجبات الدجاج الفاسدة الشهيرة ذات الخلطة السحرية ولا الرغيف الكايزر المليء بلحم مجهول المصدر فلكي الثمن، نشبع بالقليل فنرضى ونلعب جميعا ونحلق لهوا وطربا بكسر المش، نملأ الدنيا صياحا وسعادة إلا طفل وحيد، كان أبوه ليس صالحا، بل كان ممن انتفع وانتفخ بفساد انفتاح السادات، وأصبح ثريا في غمضة عين..
فكان يتلاعب بالقانون في أراضي الدولة وغيرها بالطبع، وكان هذا الطفل يأتي لنا في المدرسة ليتباهى بطعامه وأصناف الساندوتش التي لم نكن نَسع عنها في ذلك الوقت، بل كنا نعتبرها من المعجزات الخيالية التي يعرضها لنا التليفزيون في برنامج جولة الكاميرا وحول العالم حتى عالم البحار!
المهم أن هذا الطفل، جاء بصحبة أمه التي كانت تعمل معلمة بنفس بالمدرسة، وأخذ يعايرنا بفقرنا وبساندوتش المش من خالتنا (آمنة) الفقيرة البائسة مثلنا، لكنني كنت ألمح في عينيه اشتياقا لتجربة هذا الطعام كنوع من الطفاسة ليس إلا، وحرمان البؤساء هؤلاء من طعامهم، كان من الممكن أن يطلب مني (حتة) كما كنا نقرض بعضنا البعض، حتة مش مقابل حتة طعمية، أو بطاطس مهروسة مثلا أو حتى مخلل لفت أحادي الوجود في رغيف العيش، لكنه كعادة اللصوص وخاطفي حق الفقراء، خطف منا أرغفة وكسر (آمنة) البائسة وجرى بها بعيدا واختفى في غمضة عين..
ثم أتى بعد انتهاء الفسحة ليخبرنا أنه أكلها جميعها.. المهم أن هذا الطفل أكمل غذاءه بعلقة شديدة من العبد لله تضامن فيها باقي الزملاء الاشتراكيين بالفطرة!.. لكنه ظل في ذاكرتي يوصف بالحرامي سارق طعام الفقراء المتباهي بثرائه وغذائه حتى وإن كان حراما.. واليوم على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، أجد كثيرا من جوعى النفوس لا البطون من أثرياء عصور الانحطاط، يتباهون مثل حرامي المش مستكثر الغُلب على الفقراء..
بوجبة ثمنها غال أو بعزومة على حساب أحد رعاتهم، أو بعشوة مميزة وينشرون ذلك بل ويصورون أنفسهم وأمامهم تلال من الطعام، مما يدل على أن الجوع ليس فقط جوع البطون لكنه جوع النفوس الحقيرة لإثبات ذاتها حتى ولو بالشراهة!
fotuheng@gmail.com