إيما خليل تكتب.. «الظل»
“1”
سحابة فوق الكتاب، تعويذة امرأة لرجل، شباك الغرفة المطل على سماء بلا مطر، الرسوم على تراب المقهى..
أصدقاء الطفولة، والغرباء.. وأول الحب...
كنت بجلد ينزف الندى ويد تورق الحجر..
وقلب انطوائي نظيف كعين اليمام..
وكنت أقول في سري لآخري الشخصي..
ها هو أمامك الباعوض يأكله ضوء القمر..
وها هو وراءك طريق تملؤه نجوم تضيء أعالي الشجر..
وها هو أنت.. كل هذه الأعوام ولدت كما تريد..
كان عندي أفكار كالحفر.. لا اقترب منها مخافة السقوط فيها..
وأفكار كالطرق تحملني على السفر.. وأفكار كالقهوة لا تجعلني أنام الليل..
وأفكار مثل الشجر دبت بجذورها في أعماقي ببطء شديد لا تخاف الزمن.. وأصبح لها جذع وغصون وأوراق تلقي بظلالها على رأسي وبخضرة في عيني وأحيانًا يأوي إليها كلبي الصغير..
كان دومًا المفكر يكبح خيال الروائي داخلي..
وأسلك وحدي طرقًا ملتوية لم تعبدها أقدام الذين لا يجربون شيئًا جديدًا حتى تكاد تهلكني الوحشة والصبر..
وأعود إليهم في كل مرة لا أكسب شيئًا إلا الوصول متأخرًا..
أعود إلى صورة الأب، الأشقاء الثلاثة، صراخ الأم، والأرغفة، والنبيذ والأغطية و"الكلب"..
وأشعر حينها أنني في سجن دائم لا مفر منه وإن سافرت آخر العالم..
هوًة داخلي وأنا داخلها..
وحيدًا كهباء عابث حتى وإن كنت كامل التكوين..
فالعواصف دومًا أشد تنكيلا بمن تجده وحيدًا..
ويبقى بيني وبيني سفر يحولني إلى روائي رديء..
فتبدأ الرواية في كل مرة بغصة في الحلق، والشعور بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، وحنين للعودة، وخطاب المجهول والبحث عن شريك يشاركني هذا الملح..
"2"
كنت أمشي كان يمشي.. كنت أجلس كان يجلس..
كنت أركض كان يركض.. أبكي فيبكي.. أضحك فيضحك..
أهوي فيهوي..
استدرت للطريق الآخر فاستدار معي..
يتبعني، يكبر حينًا ثم يصغر حينًا كالظل..
قلت أخدعه وأخرج من غروب مدينتي فرأيته أمامي في شروق مدينة أخرى..
حتى عندما عدت متكئًا على عكازي حملته معي على كتفي..
كان هو الشبيه الذي وقع على الشبيه فلا أراه ولا يراني..
وحيدين متوحدين كأننا لا ذكر ولا أنثى..
قد يكون له اسم آخر وصراع آخر إلا أن وصفه حالتي جعلني أنجو من صفات الأرض ومن كل ما كان عاديا من الأشياء..
هذا المتمرس المتكبر الذي اجتاز كل الخيوط في عبور وعكتي الصحية واختراقها كالطفل حين يتحسس جلد أمه..
وصار كندبة الشقاء في عِرق كَتِف الأجير..
كالكف في جسد القتيل..
كمرآة بعيون لا تغالط أرى فيها ما خبأته عن الجميع دون جهد..
كالغريب الذي احترق داخلي ومشى خلفي حائرًا..
مشى خلفي مستسلمًا مؤتلفًا كالوليد يتنفس بعد المخاض لأول مرة..
فأحببت نفسي وآنست واستسلمت..
آنست واستسلمت كالنائم في الفراغ..
مرتاحًا لا أحلم ولا أفكر، لا أشعر سوى به تحت قدمي وفوق كتفي.. كالجني حل بالمفردات فتوقف كل شيء في لحظة توقف من بعدها مرور الزمن..
فكم من الوقت انقضى عندما اكتشفت أننا توءمين بوجهين كل منهم هو الآخر..
وتمنيت أن يخطِئنا القدر..
تمنيت أن يخطِئنا الموت..
"3"
والآن..
ما كل هذا الصمت.. وما هذا الفراغ بين جبهتين؟!..
جبهة تحمل الحنين إلى الآلة والأصل وجبهة تحمل الذين ابتكروا أسماءهم من جهة أخرى..
أدنو منه، دنوت ودنوت فلم أجدني واقفًا أو ماشيًا..
ودنا هو مني فلم يجدني أيضًا...
كالظل يمشي على الماء..
ومن منا كان الظل إذن؟!..
أستمر في شرب الخمر لأبقي ما أراه على الحياد..
وأحدق في اللاشيء بحثًا عن اللاشيء..
وأسأله..
هل كان العمي كل هذا الوقت هو الصديق الأحمق؟
أم أنها مهابة اللاشيء تألهه؟
أكنتُ وحدي دون أن أدري بأنني كنت وحدي؟
أم أنها عجلة الحُلم والعَجْز حملتني معها وقالت تسكن بي أينما يقع الصدى فكنت أنت مجرد صدى؟!..
هل كنت أنت أنا من أحدثه كل هذا الليل..
ولو كنت أنا كيف احتاج الغريب للغريب..
يقول لي:
بدوني ستبقى وحيدًا بعيدًا..
ستتوقف عن ممارسةِ الحياة وتختار للوجودِ شكلًا جديدًا..
سيكون عليكَ التوقف عن الكلام ما دُمتَ اخترتَ أن تقول الحقيقة..
ستبقى بعيدًا وستظل الملامح هادئة الجمال مبهمة طالما بقيت الوجوه عنك بعيدة..
ستبقى بعيدًا وستكمل كل يوم رسم الدائرة..
نفس الدائرة، تستيقظُ لتنام وتعودُ فتصحو من جديد..
ستعتاد فعل ذلك حتى تغفو أخيرًا.. بلا أجوبة..
وستنتظر الموتَ في هدوء الملائكة..
بدوني.. ستبقى بعيدًا
لا شيءَ هناكَ يفاجئك.. لا نظرة ترسم البسمة فوق العيون..
ولا كلمة تملأ الصدر بالغضب..
لا شيء هناك في انتظارك.. إلا انتظارك للأبد..
بدوني.. ستبقى بعيدًا..
ستتذوق في الطعام اعتياد الماء، ودخان السيجارة سيصيرُ كالهواء..
ستتنفسُ ببطءٍ الحزن العميق ولن تصادفك النهايات السعيدة..
بدوني.. ستبقى وحيدًا.. بعيدًا..
قد أكون يومًا أنا الأب أو الأخ أو الحبيب أو الشريك..
قد أكون نبيك..
ونبيك هو أنت فلا تعش داخل جبهته..
وقد تكون أنت هو أنا في اختلاف الصور..
أنت وآخرك الشخصي اثنان في ثنائية تتناغم في اختلاف الصور..
وإن كان لا بد من حل لهذا اللغز..
وإن كان هناك في الأمر التباسًا.. فقط علي أن أمشي وأمشي وأمشي معك إلى أن أذوب تمامًا..
ويشربني الضوء عند نهاية هذا السفر..
حتى تلحق بنا إحدى النساء تصرخ خلفنا:
تعالَ يا ابن الحمقاء ولا تفزع..
فهناك شخصٌ ما يطارد نفسَهُ...؟!