القس بريء من ليرة أردوغان
يلجأ الرئيس التركي أردوغان في مواجهة الأزمات إلى إزكاء الروح الوطنية، حتى يلتف الشعب حوله.. وإثارة المشاعر الدينية لضمان تعاطف مسلمي العالم معه.. وهو النهج ذاته الذي اتبعه في الأزمة الاقتصادية الحالية، وانخفاض الليرة التركية أمام النقد الأجنبي.
في بداية الأزمة ناشد أردوغان الشعب دعم العملة الوطنية، ثم لجأ إلى الكويت، قطر، روسيا، الصين، فرنسا وألمانيا.. ومع تماسك الليرة نسبيا وتعويض بعض خسائرها بدعم إجراءات البنك المركزي، وتعهد قطر باستثمار 15 مليار دولار في تركيا، فإن الليرة عاودت الانخفاض بعد ساعات وإن كان بنسبة أقل.
أزمة العملة والصعوبات الاقتصادية دفعت أردوغان لإثارة الجدل في كلمة متلفزة بمناسبة عيد الأضحى، ربط فيها بين أزمة الليرة وصوت الأذان رغم عدم وجود علاقة بينهما!!.. يقول أردوغان "الهجوم على اقتصادنا مثل الهجوم على الأذان.. ومن يحارب اقتصادنا كمن يهاجم صوت الأذان".
واعتبر أردوغان أن هدف الهجوم هو "إخضاع الشعب التركي ووضعه تحت الوصاية. لكن من فشلوا بآلاف الحيل والمكائد، سيفشلون في إخضاعنا عن طريق النقد الأجنبي، ويكفينا أن نتوحد".
يستجدي أردوغان شعبه بالدعوة إلى التوحد ودعم الليرة، لإدراكه أن سياسته الخاطئة وتكريسه دولة الرجل الواحد، واندفاعه للاقتراض من الخارج، هي سبب انخفاض قيمة الليرة التركية والأزمة الاقتصادية.. أما مشكلة القس الأمريكي المعتقل "أندرو برانسون"، فمجرد عنصر إضافي فيما يحدث ولم تكن وراء الأزمة كما يحاول أردوغان تصوير الأمر وخداع الجميع، وإخفاء فشل سياسته الاقتصادية.
سعى أردوغان بكلمته لتهيئة الرأي العام لصعوبات مالية مقبلة، فشهر أكتوبر سيكون ثقيلا على تركيا، إذ يتوجب عليها "سداد سندات أجنبية مستحقة بقيمة 3.8 مليارات دولار، فضلا عن 762 مليون دولار قيمة الفائدة". كما يتعين على شركات تركية سداد سندات مقوّمة بقيمة 1.8 مليار دولار قبل نهاية العام، فيما سيحل أجل استحقاق سندات حكومية أخرى بقيمة 1.25 مليار دولار". وأمام فقدان الليرة التركية أكثر من 40 في المائة من قيمتها في الفترة الأخيرة، بات سداد القروض التي حصل عليها أردوغان صعبا وأكثر كلفة.
في هذا الصدد أوجز جيسون داو، من سوسيتيه جنرال الحالة التركية بقوله "متطلبات التمويل الخارجي لتركيا كبيرة، لديها أعلى دين مُقوّم بالعملة الأجنبية في الأسواق الناشئة ودين خارجي قصير الأجل بقيمة 180 مليار دولار، وإجمالي دين خارجي بقيمة 400 مليار دولار. لذا يتعين مراقبة مدفوعات أصل الدين والفائدة عن كثب حتى نهاية العام، فالتكلفة التي يتحملها قطاع الشركات لسداد التزاماته زادت 25 بالمائة، مقارنة مع يونيو نظرا لانخفاض قيمة العملة".
أسباب أزمة الاقتصاد التركي متشعبة، مع الاعتراف بنجاح أردوغان عند توليه السلطة العام 2002 في خفض معدل التضخم، وزيادة دخل المواطنين وإنعاش الاقتصاد بشكل واضح.. لكن توقع خبراء حدوث أزمة اقتصادية في لحظة ما، نتيجة عدم التركيز على الصناعات الدائمة، وغياب الأسس الصلبة لاقتصاد متين، والاعتماد فقط على زيادة الاستثمارات الأجنبية وطفرة الإنشاءات العقارية، وانتعاش القطاع الاستهلاكي.
حين لاحت بوادر الأزمة الاقتصادية بداية العام الجاري، دعا أردوغان لانتخابات مبكرة غير بها نظام الدولة من برلماني إلى رئاسي، كرس بها سلطته المطلقة وحمى نفسه من تداعيات التردي الاقتصادي، إذ توقع الجميع وصول الدولار إلى 7 ليرات خلال أسابيع، كما لم يتخذ إجراءات تحد من التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته منذ 14 عاما، أو يسع لإنقاذ الليرة في بداية انخفاضها أمام العملات الأجنبية، وعندما طلب البنك المركزي رفع الفائدة لإنقاذ العملة، أبى أردوغان معتبرا رفع الفائدة "أم الشرور"، فزاد التضخم ونسبة البطالة.
الرئيس التركي أخذته العزة بالإثم ومضى في تعيين أهله وخاصته في مناصب حساسة بالدولة بصرف النظر عن قدراتهم، ومجرد أن استحوذ على جميع السلطات التركية، عين صهره برات ألبيرق وزيرا للمالية، مستبعدا الوزير المتخصص محمد شيمشك، المؤيد لاقتصاد السوق والرافض سياسة التدخل التي يتبناها أردوغان، وبعدها على الفور أصدر قرارا آخر يخوله حق تعيين محافظ البنك المركزي مباشرة، دون العودة إلى أحد، وكان لهذين القرارين أثر بالغ السوء على الليرة والاقتصاد..
حيث تراجع الاستثمار بنسبة واضحة مع اتجاه الأجانب لسحب أموالهم من الأسواق التركية، وبيع الأسهم المدرجة في البورصة، وانخفضت بالتالي الليرة، واعتبرت مؤسسات التصنيف الائتماني أن تركيا الدولة الثانية من حيث الاقتصادات التي تعاني هشاشة، وخفضت تصنيفها.
عندما حدثت الأزمة الدبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة بسبب القس برانسون الموضوع حاليا في الإقامة الجبرية، بعد اعتقاله لأكثر من عام ونصف العام بتهمتي التجسس والإرهاب، وجدها أردوغان فرصة لتحميل أمريكا مسئولية الأزمة الاقتصادية، وشنها حربا مالية ضد تركيا!!.
وهو ما نفاه رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض في تركيا، كمال كيليجدار أوغلو، معتبرا أن "أردوغان لم يتخذ إجراءات ضرورية لوقف انهيار العملة المحلية، التي فقدت أربعين بالمائة من قيمتها أمام الدولار خلال الأسابيع الماضية. أما الأزمة مع واشنطن فزادت فقط من تفاقم الوضع". ودعا أوغلو لاتخاذ اجراءات اقتصادية هيكلية جدية لمواجهة الأزمة المالية، خصوصا أن تركيا يتعين عليها تسديد ديون ضخمة في غضون سنة واحدة.
يعنينا هنا العبرة من التجربة التركية، فالرئيس أردوغان حقق شعبيته ونجاحه السياسي من انتعاش اقتصادي قصير المدى، وفي المقابل أغرق البلد في قروض طائلة، ومع الأزمة الاقتصادية الحالية تردت الأوضاع إلى ما قبل وصوله للحكم، فضلا عن أزمات سياسية مع أمريكا وبعض الدول العربية والاتحاد الأوروبي.