أطياف الموت
مساء ليلة صيفية مزدحمة في إحدى عربات مترو الأنفاق المكتظة بالركاب، وبينما أجلس إلى جوار صغيرتي، كان هناك على طرف المقعد قرب باب النزول، حقيبة سفر سوداء كبيرة موضوعة بطريقة تثير الريبة والشك بل والخوف أيضا.
لم أكترث غالبا، لكني ترقبت بعض العيون المعلقة مع الحقيبة المجهولة، التي بلا صاحب، خاصة أن كل من جلسوا إلى جوارها، غادروا المقعد وتركوها في محطات نزولهم، وهو ما زاد الشك أكثر وأكثر في محتوى الحقيبة.
وبصوت أجش انبرى أحد الجالسين: "شنطة مين دي؟"، لكن لم يرد أحد، ثم كرر الكلام مخاطبا الجميع: "شنطة مين دي يا جدعان؟"، ونظر الجميع إلى بعضهم البعض وإلى الحقيبة، ولم يجب أحد سؤال الرجل، وهو ما زاد الخوف أكثر، خاصة أن حجم الحقيبة أوحى للجميع بأحد الاحتمالات ــــ وهو ما تبين فيما بعد في النقاشات التي دارت بين الركاب ـــــــ، إما أنها تحمل متفجرات أو تحمل جثة قتيل مقطعة الأوصال، واختار صاحبها المترو للتخلص منها، رغم مروره بها من البوابات الإلكترونية التي ربما تكون قد نسيت فحص تلك الحقيبة!
ساد الوجوم والترقب والحذر، مما قد تحمله مفاجآت تلك الحقيبة المجهولة للحاضرين جميعا، داعين الله أن تقترب المحطة التالية لسرعة الفرار وإبلاغ شرطة المترو بالأمر.
وفي أمل أخير كرر صاحب الصوت الأجش النداء على ركاب العربة، لكن بصوت أعلى وأكثر جهورية: "شنطة مين دي يا جدعااااااان، حد يرد علينا؟"
وعلى طرف أحد مقاعد العربة كان هذا الرجل الأربعيني جالسا يستمع إلى جهاز الموسيقى في أذنه من هاتفه، ويبدو أن لحظة النداء الأخير كانت هي لحظة توقف الموسيقى، فسمع النداء، ورفع يده، مجيبا في "تثاقل فظيع" ونحن نترقب كلماته وشفتاه: "أيوه بتاعتي".
وما بين لائم له على عدم سرعة إجابته منذ النداء الأول، وبين متنفس الصعداء على النجاة من مصير غامض كاد يحيق بنا جميعا وربما كاد ينقلنا إلى عداد القتلى والأشلاء، وبعد مناقشات بين الركاب في ما توقعه كل واحد منهم عن محتويات الحقيبة، وحكايات الحقائب السوداء، همست لي صغيرتي: "هو إحنا كنا ممكن نموت يا بابا لو الشنطة دي فرقعت؟".
فكرت مليا قبل أن أجيب سؤالها وأنا أحاول الوصول إلى ما دار في ذهن كل فرد من الحاضرين في لحظات الترقب قبل أن ينطق الرجل، أهو الخوف من الموت؟ أم الخوف من الموت بطريقة بشعة، أم الخوف من حساب الآخرة ولم تنته بعد حسابات الحياة، بين حقوق ترد، أو فريضة تؤدى، أو بر بعد عقوق، أو إفراط في الذنوب دون لحاق بالتوبة.
ومع فرط سعادتي بهذا الحس الأمني العالي لدينا كمصريين الذي يستشعر الخطر ولا يهمله بل يتتبعه محاولا إيقافه، إلا أن تلك اللحظات كانت كفيلة أن تضع كل إنسان من الحاضرين في ميزان نفسه وحقيقته وحجمه، وهو ما رأيته واقعا في الأعين "المرعوبة" من الحقيبة، وهذه الحقيقة أن أي إنسان مع بالغ قوته، قد تخيفه أبسط الأمور، خاصة إذا كانت تحمل في طياتها "أطياف الموت".
إننا مجرد ورقة في مهب الريح، قد يحرقها في ثانية أقوى جند الله.."الموت".