اغتيال عالم جليل.. عن الأنبا أبيفانيوس أتحدث
في صباح يوم الأحد الموافق 29 يوليو 2018 كما علم الجميع نزل على أسماعنا خبر مأساوي بكل المقاييس ليس على مستوى الكنيسة، ولكن على مستوى المجتمع أجمع، ألا وهو اغتيال الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، وتابع الجميع سير التحقيقات خلال الأيام السابقة وتقديم جهة التحقيق الجناة الذين قاموا بهذا الفعل بعد مجهود مضنى من النيابة ورجال الأمن وكل الجهات المعنية.
ومنذ هذا الحدث أُراقب وأُشاهد بدقة رد فعل المجتمع والميديا؛ حيث أخذ الحدث ضجة كبيرة واهتمام الجميع بصورة مساندة للكنيسة؛ لخوفهم على المؤسسة الكنسية التي تعتبر داعم أساسي من دعائم الدولة المصرية؛ وذلك لأن هذا الحدث _حدث فريد في قسوته وفي تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية؛ ولأن من تم اغتياله -وهنا أقول اغتيال وليس قتل بالمعنى المعروف؛ لأن الأمر هنا هو اغتيال- ليس فرد وإنما مشروع وفكر مؤَسس على المحبة والتنوير والحوار.
ولمن لا يعرف الأنبا أبيفانيوس، هو عالم جليل في الكتاب المقدس له شروح أكاديمية تعتمد على البحث والدقة والترجمة من النص الأصلي في العهد القديم من الكتاب المقدس مثل:
سفر التكوين الترجمة السبعينية بالمقارنة مع النص العبري والترجمة القبطية، وخولاجي الدير الأبيض ترجمة عن اللغة القبطية ودراسة القداس الباسيلي النص اليوناني مع الترجمة العربية، وقداس القديس مرقس القداس الكيرلسي، وكتاب بستان الرهبان، والتجسد والفداء في الليتورجيا، ودعوة القديس بولس الرسول، وما بين العقيدة والرأي، والأب متى المسكين والانفتاح على الكنيسة الجامعة، وقصة عن الشهادة والشهداء، والكتاب المقدس والمخطوطات، هذه بعض المؤلفات على سبيل المثال لا الحصر؛ فكتاباته وأبحاثه العلمية متنوعة ما بين الكتاب المقدس واللاهوت والليتورجيات والآبائيات، بصورة الباحث المُدقق المُترجم.
وقد ساعده على ذلك امتلاكه لعدة لغات متنوعة ما بين اليونانية والقبطية والعبرية والإنجليزية والإيطالية والألمانية، بالإضافة إلى تكوينه الرهباني حيث إنه تلميذ الأب متَّى المسكين أحد أقطاب الكنيسة القبطية في العصر المعاصر، ومن مدرسة دير الأنبا مقار هذا الدير الذي عُرف على مدار التاريخ بأنه مدرسة رهبانية لاهوتية مؤسسة على البحث والاطلاع ليس على مستوى مصر، وإنما على مستوى العالم في مجالات البحث اللاهوتى وعلوم الكنيسة.
وكان الأنبا أبيفانيوس وجه الكنيسة المشرق في المؤتمرات الدولية الكنسية، حينما كان يكلفه قداسة البابا تواضروس الثانى بتمثيل الكنيسة الأرثوذكسية في المحافل المحلية والدولية من خلال المؤتمرات العلمية واللاهوتية والخاصة بالحوار؛ بل كان الأنبا أبيفانيوس منفتح على الجميع -على مختلف الطوائف- وعلى المجتمع في المجال الثقافي وخاصة من خلال مكتبة الإسكندرية، بشهادة الجميع حينما انطلقت بعد اغتياله التعليقات والمقالات والهاشتاج والتي تمثل شهادة تاريخية عنه.
كان محبا ووديعا ومتواضعا، كان يفضل أن يجلس في المؤتمرات والمحاضرات في المقعد الأخير بالرغم من مكانته العلمية ورتبته الكنسية، وكان يحث أحبائه وتلاميذه على البحث والاطلاع في الأصول والتراث؛ إذ كان له عمل علمى في تحقيق المخطوطات التي تختص بالتراث القبطى؛ فهو بحق عالم جليل من علماء الكنيسة القلائل المعاصرين، ونموذج للإنسان المسيحي المصري، ويعتبر اغتياله فقدان للكنيسة بصورة عامة.
وفى الواقع، إن واقعة اغتياله بهذه الصورة اللا إنسانية لا تنحصر في أطار قتل راهب لأسقف، وإنما تنحصر في إطار اغتيال موجه بواسطة هذين الراهبين الذين اعترفا كما قرأنا بهذه الجريمة القاسية؛ فالجناة هما العتبة الأخيرة للفعل، فقد حرضت صفحاتُ بعينِها ومعروف من يديرها ومن وراءها على هذا الأسقف، بل انطلقت تهاجم قداسة البابا تواضروس الثانى منذ أن اعتلى كُرسي القديس مرقس الرسول في أصعب الظروف التي مرت بها الكنيسة ومصر.
وبحكمة قداسته المعهودة في كل الكبوات كان يعبر بالكنيسة ويساعد في العبور بمصر إلى بر الأمان، بداية من 30 يونيو، إلى حرق الكنائس، وتفجيرها في حادث البطرسية والمرقسية، إلى هذا الحادث التاريخي، حادث الاغتيال، وفي كل مرة تتجلى حكمته وإخلاصه للكنيسة ولمصر -ولما لا - وهو قيمة روحية وقيمة وطنية أنجبتها الكنيسة وأنجبتها مصر في لحظة تاريخية من أشد اللحظات احتياجا لهذا الرجل فهو رجل فوق الكلمات.
ولا يخفى الأمر على الجميع أن مصر مستهدفة بكل مؤسساتها، مستهدفة اقتصاديًّا وسياسيًّا ودينيًّا، وتقابل تحديات جسيمة في جميع الاتجاهات، ومن ضمن هذه التحديات ما يواجه الكنيسة كأحد أعمدة الوطن، والتاريخ شاهد على ذلك ومازال يشهد على الأحداث الجارية، ولا بد أن ينتبه الجميع إلى أن استهداف الكنيسة هو استهداف لمصر الوطن.
فقد مر بالكنيسة الكثير وهى مضيئة ومنيرة وستظل كذلك بمحبة ومعاونة جميع المصريين طالما العين ساهرة على الثعالب الصغيرة التي تحاول أن تفسد الكروم، وإذا ظنت هذه الثعالب أنها لا تُرى ولا يمكن لأحد أن يمسَّها بسوء فظنها على خطأ؛ فمصر دولة قانون وبها رجال أوفياء، وهى دولة مؤسسات ضاربة في عمق التاريخ، وفوق ذلك وفوق الجميع يوجد الله ضابط الكل الذي يحمى الكنيسة ويحمى هذا الوطن الحبيب من الثعالب الصغيرة ومن الذين يدعون أنهم حماة الإيمان.