دين الحب (3)
بدأ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، دعوته للإسلام بالأقربين؛ زوجه، وابن عمه، وصديقه، فآمنوا جميعًا، وكانوا في مقدمة المصدقين بدعوته ونبوته، لماذا خطا الرسولُ هذه الخطوة؟ لأن الثلاثة هم أقربُ الناس إليه، وأحبهم إلى قلبه.. إذن الدعوة بدأت بالحب، ولهذا كُتِب لها النجاحُ، والاستمرارية.
وما حدث من عثرات، وإخفاقات في التاريخ الإسلامي، إلا لغياب مبدأ الحب.. فعندما نتجاهل ذلك المبدأ المهم لا بد من الفشل؛ حيث يكون هناك التنافس من أجل الدنيا، والتسابق رغبة في المال، والجاه، والشهوات، ومن أسمى أنواع الحب.. عندما يكون بين الأخوة، فيكون الحب في الله، لا لغرض دنيوي، فإذا كان الحب هو محور العلاقات بين المسلمين، كان النجاح حليفهم، في الدنيا والآخرة.
عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «إن من عبًاد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى» قالوا: يا رسول اللهِ، تخبرنا من هم، قال: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» وقرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (رواه أبو داود).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللَّهَ يقولُ يومَ القيامةِ: أينَ المُتحابُّونَ بجلالي؟ اليومَ أظلُّهم في ظلِّي، يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلِّي» (رواه مسلم).
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر منهم: «ورجلان تحابّا في اللهِ، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه» (أخرجه البخاري، ومسلم).
ولربما يعتقد البعضُ أن تلك الروحَ الرائعة، والعلاقات الجميلة، والمعاملات الطيبة انتهت بنهاية عصر النبوة، وذهبت إلى غير رجعة، إلا أنَّ هناك في عالمنا اليوم، العديد من المظاهر والمشاهد التي تؤكد أنَّ "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة"، وأن علائق التحابِّ والتواد في الله، لا تزال قائمة.
فهناك رجال عرفوا الله، وأحبوا رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته، ونجحوا في إعادة روح عصر النبوة بأسمى معانيه، وأزكى معاملاته، وجمعوا حولهم عددًا كبيرًا من الشباب المسلم، وأقاموا أخوةً في الله، ومحبة خالصة لوجهه الكريم، من أجلها يبذلون الغالي والنفيس، وصار المريدون في خير صورة وأجمل مثل للشاب المسلم الحق؛ فلا رياءَ، ولا نفاقَ، ولا عنفَ، ولا غلظةَ.. بل توادٌّ وتحابٌّ، وعبادةٌ، وتبتلٌ، وإخلاصٌ، وأكثر عبادتهم في السر..
لقد صاروا أسرة واحدة، متحابة، متماسكة، فحققوا قول المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم؛ مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى". (أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير).
ذات مرة مرض أحدهم، واحتاج إلى زراعة كُلَى، فانبرى العشرات، من مختلف الأعمار، يتسارعون للتبرع له، لكنه رفض عملية الزرع تمامًا، واستقبل مصيره برضا وثبات، إلى أن لقي ربه.
تراهم يتزاورون، لوجه الله، لا لغرض دنيوي، ولا تجارة فيما بينهم، ويتسابقون لخدمة بعضهم، بكل تواضع، ويبذلون قصارى الجهد في سبيل راحة الآخرين؛ فالدين لديهم ليس مجرد مظاهر، وشكليات، بل معاملات، وأخلاق، وفعل الخير، حبذا لو كان في السر.
حسُنت أخلاقُهم، مصداقًأ لقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق"، و"ألا أخبركم بأحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟ فأعادها ثلاثًا أو مرتين، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أحسنكم خلقًا".
تفيضُ أعينُهم بالدمعِ إذا سمعوا ذكر الله، ورسوله.. "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".. أتمنى أن نعود إلى صحيح الإسلام.. فإسلامنا حب، وتسامح، وتواد، وصدق، وإخلاص، وعطف، وتواضع، ومروءة، وكرم، وزهد، وورع.