الإعلام الموحد!
في يناير من العام الماضى كتبت مقالا بعنوان «دى إم سي..صوت الأرب من القاهرة» توقعت فيه فشل تجربة دى إم سي، والحق أقول إننى كنت أتمنى أن تسقط توقعاتى في منطقة التحليل الفاشل، وتنجح التجربة في إعادة صياغة الإعلام المصرى إلى مساحات من الاستقرار والنجاح، يقودنا إلى نجاح النموذج، غير أنه للأسف صحت توقعاتى التي ابتنيتها على أن ارتباط الإعلام بالمهنية ومناخ الحرية أصبح أهم عوامل نجاحه، ولكن السؤال: لماذا فشلت «دى إم سي»؟!!
من نحن وما رسالتنا وإلى من نتوجه؟.. هذه الأسئلة لم يطرحها الزملاء القائمون على تجربة «دى إم سي»، فخرجت كيانا مشوها، تائها، ضائعا غير قادر على تحديد رسالته أو جمهوره، مع سيطرة نفس النموذج في التفكير إزاء القنوات التي استطاعت مؤسسة إعلام المصريين ضمها إلى أسطولها الإعلامي، ففشلت «أون تى في» بعد أن تغيرت بوصلتها، وتاهت مع التائهين، وهى القناة التي كانت تمتلك سياسة محددة ورسالة واضحة على مدار سنوات.
نجاح «دى إم سى» كان من شأنه أن يخلق نموذجا هاديا للآخرين أينما كان موقعهم، وفشلها وإغلاق نموذجها الرياضى بهذه السرعة نذير شؤم، ورسالة تفرض على الجميع تدارس الأسباب والنتائج، وربما الدعم في الفترة القادمة، فنجاح نموذج إعلامي من شأنه أن يضيف إلى الوطن إطلالة مهمة لإثراء المشهد العبثى للإعلام المصري، الذي كان حتى وقت قريب واحدا من قوى مصر الناعمة.
تدهور الأوضاع الإعلامية خطر كبير، وعائق تنموى يجب أن يطرح على مائدة الحوار العميق، للوصول إلى حلول شافية تعيد للإعلام المصرى دوره في فترة عصيبة تواجه الأمة كلها، مع تنامى نماذج هدامة في محيطنا العربى وسقوط مروع للإعلام الرسمى يترك مساحات من الفراغ، يشغلها غيرنا بأفكاره المسمومة، ويسيطر من خلال القدرة على الوصول للناس عبر مؤسسات تقود الإعلام الاجتماعى باعتباره النموذج الأخطر الآن.
الدولة بكل ما تملك من مؤسسات إعلامية لها تاريخها لا تقوى على مواجهة حرب الشائعات التي تسرى في المجتمع، كما النار في الهشيم، هي بحاجة الآن إلى تدارس الأوضاع بشفافية، وإسناد الأمر إلى أهله، خاصة بعد فشل نموذج الرسالة الواحدة والمحتوى الموحد والرؤية الواحدة في محيط ينعم بالتنوع، وجمهور لم يعد يحتاج إلى وصاية بقدر حاجته إلى إيجاد نفسه بهمومه وأحلامه وطموحاته في قلب الرسالة الإعلامية.
أثبتت فكرة الإعلام الموحد أنها سبب عزوف الناس عن المتابعة، أو التأثر بما تريد أن تقوله الحكومة أو يبثه النظام، رغم أهميته.. التفاف الناس حول إعلام قادم من عواصم لا تخفى عداءها لنا أكبر دليل على أننا نتكلم مع أنفسنا في غرف مغلقة، ونتساءل حول أسباب فشل الإعلام، وعدم قدرته على جذب الناس إليه والتأثير فيهم.
الجماهير لا ترى نفسها على صفحات صحفنا، ولا تجد همومها كما تعيشها على فضائياتنا، فتكون النتيجة الطبيعية هي انخفاض مقروءية الصحف ومشاهدة القنوات والاتجاه إلى صوت آخر بكل ما يحمل ذلك من خطر حقيقى والسؤال: ماذا جنينا من إعلام متشابه إلى حد التطابق؟.. الإجابة: لا شىء سوى إحساسنا بالفشل المرعب في صياغة إعلام وطنى قادر على تحمل مسئولياته.
كل تجارب الرأى الواحد والصوت الواحد والرسالة الواحدة انتهت إلى فشل مرعب، ولن يكون لدينا إعلام قادر إن لم يكن لدينا رؤى متنوعة ومساحات من الحرية المسئولة، وخلق حالة جدل وطنى قادرة على استيعاب كل أطياف المجتمع، لتصنع رسالتها من الناس وإلى الناس.. أي محاولات بعيدة عن ذلك ستكون حرثا في الماء!!