رئيس التحرير
عصام كامل

شجاعة الرجل الشقي


«الولد الشقي» هو كاتبنا الكبير الراحل محمود السعدني، فقد مارس الشقاوة مع ملح الأرض ضد كل الأنظمة، وظل واحدًا من أبطال الشقاوة، حتى قُبيل رحيله عندما كنا نتجمع حوله في نادي الصحفيين، الذي أنشئ بفضل شقاوته، عاش على رصيف الحياة كما يحيا الملوك في قصورهم، ولم يبالِ يومًا من الأيام حالة يأس واحدة، رغم كل الظروف التي أحاطت به، كان صباح حياته مزيجًا من العبث والعمل والجد والهزل، ومضى به قطار العمر كما لو كان حالة فريدة من القفز بين القمة والسقوط إلى القاع، رحل عم محمود وترك فينا مساحة من الفراغ القاتل لا يملؤها غيره.


ذات صباح من أيام بدايات "فيتو" قبل سبع سنوات طرق بابي طارق، شاب ممشوق القوام، تبدو على جبينه علامات من التمرد والخجل المحسوب، والرغبة في تقديم ذاته إلى الناس، أصبح واحدًا منا، وفي أيام قليلة كان في مُقدمة الصف، كلما وضعت له إطارا للعمل، كانت رغبته في تعدي الإطار أكبر من قدراته على البقاء فيه، ولأنه كان ناضجًا نضوج الرجال، حالمًا بالقفز فوق الأسوار قلت في نفسي: «نحن بحاجة إلى رجل شقي يُنغص علينا أفكارنا الثابتة، وينفض عنا بواعث الجمود».

ملأ الدنيا ضجيجًا مدهشًا، وأصبحت كتاباته واحدة من أهم ما أسعى لقراءته قبل النشر، نشأت بيننا مباريات من الذكاء، هو راغب دائمًا في القفز فوق التعليمات لكن باحترافية مذهلة، يُفكر بالعكس ويرى غير ما نرى، ويكتب عكس ما نكتب، نتجادل في أدق الأمور وهو الفائز دومًا، يُحب الوطن بطريقة خاصة جدا، يُعارض عندما نتفق، ويتفق عندما نتناقض، على أن عباراته الرشيقة ظلت هي المعيار الذي يهزم قناعاتنا، أرسى قواعد خاصة به دون غيره، وأصبح واحدًا من أهم كُتاب جيله رغم كراهية الجيل لكل نبتة تزهر!!

لم يكن الرجل الشقي «أيمن عبد التواب» صحفيًا عاديًا، بل كان شعلة وهاجة تضيء مساحات من العتمة، ساعدته دراسته للغة العربية والعلوم الإسلامية في كلية دار العلوم في أن يكون عميقًا في تناوله، ولم يكن في يوم من الأيام واحدًا من القطيع، تراه دومًا يقف خارج الصف، يثيرك بقراءته المدهشة لقضايا الدين والمجتمع والسياسة، فكان تَمرده تمرد القارئ الذكي لأحداث التاريخ والفقه والتفسير، كان ولا يزال تنويريًا من الدرجة الأولى، لا يخشى في ذلك تكالب الجمود ضد تحرره.

وسط حالة السجال اليومي فاتحني أيمن عبد التواب في انتقاله إلى مؤسسة إعلام المصريين لأسباب تخصه، شجعته على طرق أبواب جديدة ربما يحقق فيها ما لم يحققه لدينا، ظللنا أصدقاء، تمضي الأيام وأيمن لا ينقطع عنا، يُعايرنا بما يُحققه هناك مع الزميل خالد صلاح، الذي تفهم سريعًا قدرات أيمن وإمكانياته، واستطاع أن يستوعب بحكمته وخبرته شطحات عبد التواب.

ظللت وزملاؤه نتابع نجاحات أيمن وكتاباته إلى أن جاء اليوم الذي حمل معه مفاجأة لأيمن ولنا، عندما كتب عن «المرض البطال» الذي زاره دون استئذان، اكتشف أيمن بالصدفة أن السرطان قد زاره بليل، وأراد أن يتمكن منه، لم يكن غريبًا أن يختار أيمن طريقة للتعامل مع هذا الزائر المزعج، قرر أن يُفاوضه، يُناكفه، يُعانده، يُواجهه كما لو كان يلعب دور شطرنج، أمسك بقلمه وبدأ يخوض معه معركة البقاء، فأنتج مجموعة من الكتابات الخالدة في سجل المواجهة الإنسانية للمَرض البطال!!

لم أتصل بأيمن ولم أزره، أيمن ليس ذلك الإنسان الخاضع، الذليل، الضعيف الذي يجب أن تواسيه أو تأخذ بيده، فهو الذي يأخذ بأيدينا في كل شِدة نمر بها، أيمن عبد التواب هو التعبير الدقيق عن ملح الأرض، هو المعنى الحقيقي للإرادة الإنسانية القادرة على المواجهة في أصعب الظروف، أيمن هو ذلك الرجل الشقي الذي لا يُغلق أبواب الريح، لأنه يستريح لفتحها لاكتشاف ما تأتي به خَماسينها العاتية.

تمضي جرعات الكيماوي في بدن أيمن وقلمه لا يزال ينساب بأفكار إنسانية تغزل الأمل في نفوسنا نحن المرضى بالخوف والضعف والوهن، لا يزال كما عرفته منتصبًا، شاهرًا قلمه في مواجهة شجاعة لزائر جبان، لا يزال أيمن عبد التواب هو ذلك الرجل الشقي الذي لا ينتظر منا أن نُواسيه، أو نُشفق أو نخاف عليه، وما زلت أنا لا أتصل به موقنًا أننا سنلتقي بعد أن يُجهز على عدوه منتصرًا له ولنا وللإنسانية كلها.
الجريدة الرسمية