الخصم من الرصيد
«القلم بييجي عند نقطة الخصم ومايرضاش يمضي، بخاف الدنيا تلف بيا وأتقرص أنا كمان، علشان إيدي جريت على خسارة الناس، وإحنا في ظروف صعبة جدا، علشان كده أكتر عبارة بستخدمها أواخر الشهر لموظف الحسابات: (ما تخصمش لحد إلا اللى هاقولك عليه)».
رنت عبارة صديقي المدير بإحدى شركات الأثاث في أذنى رنين الجرس الثقيل، وأنا أراه يرفض توقيع خصومات شهرية بمرتبات العاملين معه، نظرا لتدنى أوضاع رواتبهم، ونظرا للظروف المعيشية الصعبة من حولهم.
فبادرته بنبرة المندهش: «بس كده غلط جدا، وممكن يؤدى لتسيب واستهتار!!».
قال لى في نبرة هادئة للغاية: «صدقنى أحاول ضبط المسألة، بين الرحمة بالناس والرفق بهم وظروفهم، وبين تطبيق اللوائح ونصوص العدل في الشركة، فمن الممكن أن أخصم فعلا لزميل معتاد الإهمال والتسيب الوظيفي، وهنا يكون هو من جنى على نفسه وسلم فرصته في العمل إلى مهب الريح، وساعتها أسلم أمره إلى الإدارة العليا كى تحسم أمره، لكنى أرتبك وأضطرب بل ربما تتجمد يداى فوق الورق، إذا وقعّت خصما على زميل بطريق السطوة، وأنا أعلم أنه في ظروف حالكة السواد، وربما كان الظرف خارجا عن إرادته تماما».
ويكمل صديقي الخلوق: «إلا العبث في أرزاق الناس، سيسألنى الله عنها لو كنت ظلمت أو أجحفت، أو تجاوزت، وسيسألنى أيضا لو تهاونت أو تسيبت، الأمر برمته، ميزان أزن به الأمور، وفق معيار الرحمة، والظروف، وتطبيق اللوائح، وحق صاحب العمل، ووفق حاجتى أنا للشعور بالحب والخير والتكامل، والرحمة، وبقاء رصيد الستر لى».
(رصيد الستر لى!)
شغلت العبارة وجدانى، فلا أشجع مطلقا على التسيب الوظيفي والانفلات في ضوابط أي مهنة وأى مكان عمل، بما يؤدى لانهياره أو فشله، ولكن مع ضرورة مراعاة التطبيق المرن للوائح بما يتناسب مع ظروف كل حالة وكل موقف، بلا محاباة أو شبهة مجاملة، وبما يضمن للمؤسسة أيا كانت حقوقها كاملة، بلا إهدار أو تفريط.
عن جرير رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرِّفق يحرم الخير»، بمعني أنَّ الإنسان إذا حرم الرِّفق في الأمور فيما يتصرف فيه لنفسه، وفيما يتصرف فيه مع غيره، فإنَّه يحرم الخير كله، فإذا تصرَّف الإنسان بالعنف والشدة، فإنَّه يحرم الخير فيما فعل من خيرات بل ربما يمحوها من الأساس.
ولذا كان الرِّفق في الأمور، والرِّفق بالنَّاس، واللين، والتيسير، من جواهر الأخلاق الإسلامية، ومن صفات الكمال، ومن صفاته عز وجل أنَّه حليم، ويحب من عباده الرِّفق، فيوصيهم به ويرغبهم فيه.
ندخل باندفاع دائرة قسوة القلوب وغلظتها، لأننا لم نضع نصب أعيننا، ظروف وملابسات الآخرين، فنكوى ظهورهم ونستغل حاجتهم، وبجرة قلم نضيع أرصدة من الحب والرحمة والمال، ربما كانت الرمق الأخير لكى تستر بيتا، أو تشبع بطنا، أو تصح بدنا.
(ما تخصمش من رصيد محبتك ومعزتك عندهم.. ما تخصمش من رصيد الستر اللى ربنا مكمل بيه حياتك علشانهم.. ما تخصمش فالعمر هو المخصوم، وهو السالب، وهو الناقص.. ما تخصمش من رصيد دعواتهم ليك بظهر الغيب أن ربنا يكرمك في حياتك).
الخصم ليس نقودا فقط، فالأذي بكل أشكاله يكسر الروح ويحطم النفس، فلنحذر كسرة مكسور أو مهزوم.
«اللهم رقق قلوبنا»....