رئيس التحرير
عصام كامل

عندما يبكي الرجال


بصعوبة بالغة تبينت ملامحه، وأنا الذي يعرف أهل قريته فردا فردا، لم يكن عم "سيد" بنفس القسمات، كان وجهه صبوحا مهما توالت عليه الأحداث الجسام، ضاحكا، مستبشرا، باش الوجه والملامح. ما الذي جرى؟


وكأنه قرأ الألغاز في عيونى فقال وهو يتكئ على عصاه مستندا بذقنه عليها: "أكل منى الزمان ولم أكن أتصور أن أعيش حتى أفقد قواي التي عشت بها وعليها، فأنت كما تعلم حياتي مرهونة بما قدرني الله عليه بالعمل في "الفاعل"، كنت أعيش على "يوميتي" لم يسمع مني أحد أنينا ولم تصدر عني شكوى.

أردف قائلا: تآمرت عليّ صحتى ولم أعد أقوى على العمل كما كنت، تعب القلب فخضت معركة مع تجارة الأطباء في البشر، أنفقت أحد عشر ألف جنيه كانت تحويشة العمر لتركيب دعامة، وحاولت مرة أخرى العودة للعمل، ولم يشأ القدر أن أكمل المشوار فقد ضربني "فتاق" رهيب، تعتصرني آلامه حيث لا أنام، عدت إلى الأطباء، ولم يعد في الجيب ما يمكنني من معاودة الأمل، لدى ولدان أحدهما في الثانوى والآخر على أبواب الجامعة.

يختنق صوت عم سيد وهو يقول: آلام الحاجة والعوز أصعب بكثير من ألم الفتاق، لا أعرف ماذا سأفعل مع ابني في الجامعة أو ابني في الثانوى، قضيت عمرى بين عمال "الفاعل"، وعندما لا يقوى ظهرك على حمل "الحمل" تصبح لا ضرورة منك، وتصبح وكأن الموت هو الحل.

يسكن الصمت ملامح عم سيد برهة، ثم يقول: لكنى آتى إليك اليوم لتتصدى معى لبعض تجار الطب، لا بد من جراحة توقف آلامي، فربما أقوى بعدها على العمل مرة أخرى، أول مرة أستدين.. مائة وخمسون جنيها مجرد "مواصلات" كنت آتي إلى القاهرة بعشرين جنيها أيام مبارك!!

يدخل عم "سيد" في نوبة بكاء يحاول بكبرياء مكسور أن يكتمها دون جدوى، حشرجة تحول دون فهمي ماذا يقول، لا أعرف إن كان يشكو أو يتحسر على ما فات من عمره، عندما كان فتيا قادرا على العمل، أو عندما كان يأتى إلى القاهرة بعشرين جنيها، أو عندما كان يعيش بإباء عرقه، هو رزقه، وذراعاه هي أدواته، وقدرته على حمل "الحمل" هي طوق نجاته من العوز والقهر والحاجة.

عم "سيد" يشعر بالقهر، فهو لم يقصر في حق مجتمعه، التزم وأنجب اثنين، عاش حياته مكافحا فيما يعرف من عمل، لم يتعاط مخدرا، ولم يقس على صحته، فقط حاصرته سنوات العمر، وسكنت قواه شيخوخة تمضى في العروق، فتجعل القادر غير قادر، تحويشة عمره تتناسب مع عمله، أنفقها على أدوات عمله،على صحته، لم يضبط يوما مسرفا أو غير عاقل في تدبير أمره، كل ما في الأمر أنه عاش في بلاد لا تعرف حق الشيخ إذا شاخ، فتركته للقهر ينهش في مجهول أيامه القادمة.

عم "سيد" ليس حالة وحيدة، ملايين البشر يعيشون نفس الحالة، تطاردهم هواجس الخوف والعوز والحاجة، لا يعرفون كيف سيمضي بهم قطار العمر، أدوا ماعليهم من واجبات الحياة،عملوا بجد واجتهاد فيما يعرفون، وفيما أتيح لهم من فرص الحياة، والآن تحاصرهم أشباح المستقبل المجهول، لا يقوون على الاستمرار، ينتظرون الموت حلا وحيدا في ظل تخبط اقتصادى لا يرحم ضعيفا ولا محتاجا، في مجتمع يمضي إلى رأسمالية متوحشة تهضم الضعيف بلا شفقة أو رحمة!!
الجريدة الرسمية