اللص الأزرق
لى عدد من أحب الأصدقاء وأكثرهم احتراما وحرفية في مجال أعمالهم، عقولهم من ذهب، لا يحبون مواقع التواصل الاجتماعى مطلقا، لم يجربوها وليس لهم حسابات بها، لا يشغلون بالهم مطلقا بما يقال أو يدور بها، يستخدمون الهاتف المحمول العادى جدا، وفى الضرورة فقط، يعشقون الراديو والقراءة ونشرات الأخبار، لا يتفاعلون مع أجواء "الثرثرة" و"الزعل" والخصام" و"التلقيح" و"السباب المخفى" أو "التهديد والوعيد" بالويل والثبور وعظائم الأمور، يعيشون في هدوء أجواء ما قبل دخول هذا العالم الفضائحي إلى حياتنا.
سألت أحدهم وقد وجدته عقب صلاة الجمعة، منهمكا، على المقهى، كما هي عادته في قراءة العدد الأسبوعى من جريدة "الأهرام" العتيقة العريقة التي تربي جيلنا على قراءة سطورها، مدققا في أحد التحليلات الطويلة، مرتديا نظارته ذات الزجاج السميك: "انت مش عامل حساب على فيس بوك ليه؟".
أجابنى: "مش محتاج أبقى عبيط".
قلت له: عبيط ؟!
قال لى: نعم وكلكم هذا، فمن يسلم عقله لهذا المجتمع "الأزرق" الملئ بالهموم أكثر من أسباب الفرح أطلق عليه بكل أريحية واستمتاع وثقة أنه "عبيط".
ويكمل في وقار بالغ :"من يترك متعة القراءة وفرحة المطالعة المستمرة، ويسلم نفسه لفلان اللى بيلقح على فلان، أو فلان اللى طلق مراته وعمال يفضحها عبر الصفحات، أو فلان اللى طلع مصيف مع ولاده، وهو راجع عمل حادثة واتقصف عمره، أو فلان اللى روج خبر عن زواج فلان من فلانة ونصب حولهما السيرك على حين الموضوع مالوش علاقة بالواقع تماما، ومن تترك وفاة والدها أو والدتها من على طاولة الغسل، لتسارع بكتابة منشور عن الوفاة والتماس الدعاء من الأهل والأحباب، ومن تكتب عن طلاقها من زوجها المستهتر، ومن يتباهى بنفسه في خيلاء كدابة، عالم من الغوغائية يا صديقى لا ينجو منه أحد إلا من عصم ربي وأراح عقله".
قلت له: أكمل...
مسح زجاج نظارته السميك ناظرا إلى الجريدة، وهو يحتسي كوبا من الشاى الثقيل: "شاغلين نفسنا بأمور كتير قوى، واأغلبها لا تخصنا ولا تخص حياتنا، بل لا تعنينا من الأساس عن آخرين، عن حياتهم،أولادهم، خناقاتهم، فرحهم، وحزنهم، ياراجل ده حتى واجب العزاء بقى بـــ"لايك"!، بذمتك ده ينفع؟".
واحتسي آخر رشفة في كوبه، وهو يهم بالقيام وتوديعي قائلا: "بصرف النظر يا صديقي عن دور ما تسمونه "السوشيال ميديا" المهم في إيصال رسائل اجتماعية واستغاثات البسطاء، وفضح بعض السلوكيات الخاطئة من خلال نشر فيديوهات، بس بنسبة كبيرة المصايب هاتقل من حياتنا لو فكرنا في عدم التركيز الشديد معاه، ونرجع للأيام القديمة، أيام ما كانت الدنيا ولا على بالنا".
لطمنى بكلامه وعدت بذاكرتي إلى الخلف، وقت كنت قارئا نهما، أذهب للمكتبات العامة كى أستعير الكتب والقصص، أجلس في مكتبة الزيتون العامة بالساعات الطوال، قرأت سلاسل كاملة، مستغلا وقت الإجازة الصيفية فيها، مستغرقا باستمتاع في الإجهاز على مجموعة قصصية والولوج فيما بعدها بشهوة عاشق مولع لمحبوبته "القراءة" في سبيل نشوة الإدراك والوعى، أما وقد أسرنى هذا العالم "الأزرق" الملعون، فهل إلى خلاص؟