الكٌتّاب ضد الإرهاب
«تعلمت وحفظت القرآن في الكٌتّاب»، عبارة يفتخر بها أبناء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، خاصة من تربوا في كنف الريف الأصيل، ونما وجدانهم على آيات الذكر الحكيم، وهي تُتلى كل صباح في هذا المكان الواسع الذي تَفترشه الحصائر، «الكٌتّاب».
تمتع «الكٌتّاب» بمكانة كبيرة في الحياة العامة في مصر، خاصة ريفها، لما للقرآن الكريم وعلومه من مكانة في الأنفس، فكان هذا المكان بوصلة الاتجاه الرئيسية نحو أروقة الأزهر الشريف، بل ومؤسسات التعليم بجميع مراحله بشكل عام، فمثل بذلك أداة رئيسية لتعلم القراءة والكتابة وتعلم العلوم الدينية الأولية.
المكان هو منزل الشيخ، فناء متسع مظلل، يتجمع فيه الصغار، حول «سيدنا» يتلقون منه العلم، وهم جالسون على هيئة صفوف أو في دوائر، مستخدمين أدوات بسيطة للحفظ والتعلم لا تعدو اللوح والريشة والحبر، فيُدوّن الطالب ما سمعه وتعلمه على شيخه، ويكتبه على اللوح الصاج، أو الخشب، ويأتي في اليوم التالي حافظا الآيات، متعلما حروف القراءة، فتَتم مكافأته أمام زملائه، أو غير فيتم عقابه.
وعرفت الأجيال الحديثة، الكٌتّاب من خلال عدة أعمال درامية، أبرزها المسلسل الشهير «الأيام»، وتفاعلت مع دور الفتى مكفوف البصر «طه»، مجسدا قصة حياة الأديب الراحل طه حسين، فأعطى نموذجا لمرحلة مهمة من تاريخ أحد مخلدي الأدب المصري.
انتشرت الكتاتيب بشكل واسع وبارز، خاصة في القرى؛ نتيجة تحمس الناس الشديد لحفظ القرآن الكريم، ورغبتهم في تعليم أبنائهم صحيح الدين، كخطوة على طريق الإعداد للالتحاق بالأزهر الشريف، أو مؤسسات التعليم العامة، ولا يخفى دور«الكٌتّاب» كمؤسسة تعليمية تخرج فيها قادة، وأصحاب فكر مجتمعي سليم وبنّاء، يشار إليهم بالبنان في قراءة القرآن، وفي حيازة العلوم الشرعية، والتمكن في مجالات القضاء والطب والهندسة والأدب والثقافة والفن، ومن هنا فإن للكٌتّاب رسالة سامية، أهمها وأجلّها العناية بكتاب الله تعالى، وتعليم أوليات القراءة والكتابة.
وبحسب تأكيد وزير الأوقاف الدكتور محمد المختار جمعة في مايو الماضي، فقد ارتفع عدد الكتاتيب ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم من 750 إلى 2286 كُتابا، ومكتب تحفيظ، معتمدا من الأوقاف، فضلا عن ارتفاع عدد المدارس القرآنية في خلال 6 أشهر إلى 638 مدرسة بإجمالي 1900 مُحفظ.
إلا أن بعض القائمين على أمور تلك الكتاتيب والمدارس يعانون ضيق ذات اليد، فضلا عن انعدام الرعاية الصحية والاجتماعية، خاصة من لا مورد لهم للرزق سوى هذه المهنة، فمنهم خاصة في قرى الصعيد، من لا يتقاضون أي أجور من التلاميذ، ومنهم من يتقاضون أجرا زهيدا لا يتعدى جنيهات قليلة شهريا.
ولهذا يحتاج المحفظ، إلى عناية مسئولي الدولة، فمُهمته من أخطر المهام تصديا ووقوفا في وجه الإرهاب وقوى الفكر المتطرف، التي تتلقى النشء والبراعم الصغيرة، فتُغريهم بعناصر جذب، ومعسول الكلام إلى الانجرار والسقوط في فخ الفكر الديني المغلوط جملة وتفصيلا، ولذا تتطلب هذه المهمة جهدا بدنيا وذهنا صافيا، ودخلا كريما، يساعد المحفظ والعالم على القيام بدوره الأصيل.
لا بد من تحصين الشباب والمجتمع ككل، بداية من الطفل من خلال الكتاتيب، ومن خلال دعم المحفظ، لأنها ضمن الوسائل التعليمية التمهيدية، التي يستخدمها الإرهابيون لدعم إستراتيجيتهم للتجنيد المبكر للأطفال، تحت إغراءات نفسية ومادية وتربوية.
حتى يتم سحب البساط من داعشيي الفكر، فيجب أن يوضع الكٌتّاب كبداية أساسية على قائمة الأدوات الرئيسية لمحاربة التطرف، من خلال علماء تلقوا تعليمهم في الأزهر الشريف، يستخدمون النقاش وإعمال العقل، وبث صحيح الدين في عقول الصغار.
الاهتمام بهذا الكيان القديم الأصيل، خطوة داعمة على طريق الحرب الشرسة ضد عناصر الإرهاب، ومن هنا ننشد الاهتمام والاستحداث والتطوير، بما يناسب متطلبات العصر الحديث من تكنولوجيا وتقنيات تساعد على الإلمام والوعي السليم بصحيح الدين وميسوره.