الفقراء لهم «الجُرسة»
بعيدًا عن طابور «العيش» والتموين والمعاشات والمستشفيات الحكومية، لا يجب أن يقف الفقراء، الطوابير الأخرى لا توجد بها أماكن شاغرة لاستيعابهم بفَقرهم وقلة حيلتهم ورغبتهم الأكيدة في «الستر والصحة»، وإن حدث هذا فإننا نتعامل معه وكأنه علامة من علامات «قيام الساعة»..!
للأسف.. وصلنا - دون أية مؤامرات خارجية أو مخططات تخريبية أو حتى جماعات إرهابية- إلى النتيجة السابقة، الفقراء لا مكان خالٍ لهم إلا في طوابير «الفقر»، أما النجاح والتفوق والذكاء فهذه أمور لا يجب أن تكون في جيناتهم الوراثية.. الغباء يجب أن يكون متأصلًا ضاربًا جذوره بحدة في أرواحهم، وإن حدث عكس هذا، فإن الأمر وقتها سيكون ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل وتسليط الضوء.
الثانوية العامة.. وتحديدًا «قوائم الأوائل».. الدليل الأحدث على النظرة التي ينظر بها المجتمع المصري إلى الفقراء، فإن يكون ابن أحدهم متصدرًا مشهد التفوق، فهذا أمر يجب أن تنطلق من أجله قوافل الكاميرات والميكروفونات، وأن يحاول الجميع البحث عن سر هذا التفوق، فكيف لـ«ابن بائعة الأنابيب» أن يحصل على مركز متقدم في الثانوية العامة، وكيف لفتاة ذات ملامح هادئة وديعة تساعد أباها في الزراعة، وتعمل كما يعمل الرجال، وأكثر قليلًا، أن تكون من الأوائل وهي لا تمتلك حسابًا على «فيس بوك»، ولا تصحو يوميًا لتُغرد على «تويتر».
ابن «بائعة الأنابيب».. مصطلح وقح.. فج.. كشف عُنصريتنا تجاه فقراء المحروسة - وأنا منهم- فالأم التي لم تجد حلًا لمواجهة الحياة وقسوة متطلباتها، إلا بالاتجار في الأنابيب، وهذا مباح بالمناسبة ولا يعاقب عليه القانون، وصمت ابنها أنه «ابن بائعة الأنابيب»، والابن الذي يقول المنطق إنه يجب أن يساعد والدته، للعبور من مأزق الظروف الصعبة، أصبح في غمضة عين ظاهرة تستحق الدراسة، فكيف يعمل كل هذا، وهو فقير، وفي النهاية يكون متفوقًا.
بالقطع.. «جينا نكحلها فأَصبناها بالعمى».. فمن الطبيعي أن يكون الفقير ذكيًا.. متفوقًا.. ومبدعًا أيضا، وهنا لا علاقة للفقر بالأمر، فالمَوهبة لم تهبط عليه من السماء، لأنه فقير، بل الطبيعة المسئولة، الجينات الوراثية، السبب، وبالمناسبة حتى الآن لم يَثبت العلم، أو الخرافة حتى، أن هناك جينات خاصة للفقراء، وأخرى لـ«ولاد الذوات»..!
المُحزن هنا.. أن الحكاية لم تقف عند حد «ابن بائعة الأنابيب»، لكننا لم نَرتضِ إلا وأن نزيد «الطين بلة»، عندما قررنا مطاردة فتاة صغيرة في إحدى قرى محافظة الشرقية، من أوائل الثانوية العامة، بعدما اكتشفنا أنها ابنة لعائلة مصرية فقيرة، تساعد أباها في أعمال الزراعة، وهذا أمر طبيعي بالمناسبة في الأرياف، فزوجتي الكاتبة الصحفية إيمان النجار، نائب رئيس تحرير مجلة المصور، إلى جانب الكم الهائل من شهادات التقدير التي تُؤكد أنها كانت «الأولى» طوال سنوات دراستها، ومنها الثانوية بالمناسبة، لا تُخفي حكايات سنوات مساعدتها لأبيها في أمور الزراعة، بل تتحدث عن الأمر بشيء من المتعة والروعة دون أي خجل، تتذكر يوميات زراعة الأرز.. جني الفاكهة.. وما إلى ذلك من أمور، في بعض الأوقات تجد زوجتي متعة في سردها.. غير أنه لم يحدث يومًا أن تعاملت مع حكاياتها تلك وكأنها «شذوذ عن القاعدة» يستحق أن نلتفت إليه.
السؤال الآن.. هل لم ينجح وبَتفوق أحد أبناء الأغنياء؟.. بالقطع القوائم تضم الكثير منهم، لكننا – وكعادتنا- تعاملنا مع تفوقه هذا وكأنه من «طبائع الأمور»، هنا.. نكون قد ارتكبنا جريمة عاقبنا الطالب المتفوق، ابن الأسرة الغنية، وتركناه وحيدًا دون كاميرات تطارده، أو ميكروفات نضعها أمامه، هنا.. نكون قد جعلنا غنى أبيه «نقمة» بعدما كان لسنوات طويلة «نعمة».
سؤال آخر يفرض نفسه أيضا.. ماذا لو فشل ابن بائعة الأنابيب- وأجدد هنا تحفظي على اللقب هذا- في سنواته الجامعية؟.. هل سنَصمت وقتها ونقول «عادت الأمور إلى نِصابها الصحيح»؟.. أم سنشغل يومنا الطويل بالأسباب التي دفعته للفشل؟.. وماذا لو نجح؟!.. هل سنظل نُطارده باللقب الفج الذي مَنحناه إياه في لحظة انتشاء منا، أم سنكتفي بَترديده بين أنفسنا؟!