رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات شارعنا


كنت في المرحلة الابتدائية داخل فصل يزيد تلاميذه على الخمسين، في مدرسة يقل عدد معلميها عن الدستة.. مرت سنوات ولكنني مازلت أذكرهم جيدًا، رغم تباين ملامحهم واختلاف شخصياتهم، فأحد المدرسين كان دائم البحث عن مسجد للصلاة، ويتأخر عن حضور الحصص بسبب ذلك، بينما مدرس آخر كان دائم البحث عن فرصة هجرة لأمريكا، ويتركنا ليراجع أوراق سفره، فتوزع انشغالهما بين البيت الحرام والبيت الأبيض، ونسى كلاهما "بيت القصيد" وهو الانشغال بتعليم التلاميذ.


اعتدت أن ترافقني صافرات السفن في ميناء الإسكندرية خلال طريق العودة إلى المنزل، بعد يوم شاق أكثر من كونه مثمرًا.. أسمعها كأنها تعتذر لي عن سوء جودة التعليم في المدرسة.. لم يكن يعوضني عن مشقة حمل الكتب الدراسية إلا الوقوف لمشاهدة السفن الضخمة، وقد اقتربت من رصيف الميناء، أو بدأت في الابتعاد عنه.. تنزل من فوقها البضائع أو يصعد على متنها المسافرون.

جاءت الكثير من السفن وغادرت أخرى عبر موانئ مصر.. بعضها كان وسيلة الغزاة لاحتلالنا وبعضها الآخر كان وسيلتهم للجلاء، بعد أوقات صعبة حملت في طياتها ثورات دعمها أحرار، وأحلام صنعها أبطال، وكوابيس صاغتها الظروف.

ورغم يقيني بأن السفن التي أشاهدها في الميناء لا تحمل جيوش الأعداء إلا أنني كنت أنتظر قدومها وأراقب رحيلها كمن تكلف بمراقبة الميناء للاطمئنان على أحواله.

قد أسرح أحيانًا بالخيال فأتقمص شخصية "رجب" في فيلم (صراع في الميناء) أو أفكر في حبكة أفضل لفيلم (غريب في الميناء) وربما انشغلت أثناء مراقبة السفن بتذكر حكايات قديمة تداولتها مقاهي شارعنا عن جارنا العامل الفقير الذي تحول بعد سنوات إلى أكبر أغنياء لندن، وكاد يصاهر العائلة الملكية، لولا حادث قضى على نجله بصحبة الأميرة ديانا، أو تغضبني قصة عامل آخر في شارع مجاور باع الوطن وسجلت السينما حكايته في فيلم (بئر الخيانة).. وتراودني روايات لآخرين استطاعوا ترسيخ حب البلد والناس في قلوب أبنائهم حتى قدموهم شهداء.. بكوا عليهم كثيرًا، وحكوا عنهم أحيانًا، ولكنهم لم يندموا على تضحياتهم أبدًا.

مرت سنوات أطول لأودع الطفولة، وأهاجر ساعات مراقبة الميناء.. ورغم التوقف عن الاستماع إلى حكايات شارعنا إلا أنني مازلت أتذكرها كلما مررت بجانب ميناء أو استمعت إلى صافرات السفن.
الجريدة الرسمية