سعة الرزق
مع ما تمر به البلاد حاليا من إجراءات إصلاح اقتصادي، قد تتسبب في صعوبات معيشية لذوي الدخل المحدود، راقتني دعوة قرأتها عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، ويدور فحواها حول أهمية التكاتف المجتمعي، في سبيل عبور تلك الفترة العصيبة على ذوي الدخل المحدود، ومن يُلامسهم تأثيرات تلك الإجراءات الاقتصادية.
تدعو الفكرة إلى النظر إلى أصحاب المهن المؤقتة مثل، حارس العقار، عاملة نظافة السلالم، بائعة الخضراوات، البائع المتجول، أن تزيد له في الأجر بالمقدار الذي يفيض عن حاجتك، كنوع من الصدقة «المخفية»، التي ترضي بها نفسا تتعفف وتطلب الرزق، وفي الوقت نفسه تعين آخر على معيشته وحياته وحياة أسرته، وترزق نفسك وإياه سترا لا يٌفضح، ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
تذكرت من فوري حديثا، دار بيني وبين أحد الأصدقاء حول أهمية التَصدق ابتغاء مرضاة الله، وأثره في توسعة الرزق وتغيير مجرى أزمة ربما تعصف بك وكان عنوانها العريض: «بدفع 10 جنيهات كل أسبوع، وربنا بيبعتها لي 100 أو 1000، وكله والله من فيض ربنا».
شرحها لي صديقي بطريقة مبسطة وسلسة، وأنا أعلم صدق نواياه في عدم الرغبة في المباهاة وحرصه على الكتمان، إلا أنه لم يُبح بهذا إلا عندما رأيته مواظبًا على الصدقة في صندوق المسجد، المخصص لكفالة الأيتام، ورأى نظرة اندهاش خافية في عيناي، وأنا أعلم أنه يمر بأحلك وأسوأ ظروفه المادية.
قال لي: «عمري ما بطلت العادة دي من سنين، كل يوم جمعة وده غير فرض الزكاة بتاعي، بعد صلاة الجمعة لازم أحط اللي ربنا يقدرني عليه في صندوق الأيتام أو صندوق إعمار المسجد أو صندوق زواج اليتيمات، أو صندوق الزكاة، أي باب صدقة مفتوح بحط فيه اللي ربنا يقدرني عليه، وساعات كتير مش بيبقي في جيبي غير اللي يروحني بيتي وأنا داخل على عيالي بكيس فاكهة، والشيطان يقول لي الفلوس على قدك، طنش، عيالك أولى بالفلوس».
ويكمل: «ورغم الوساوس دي يا صحبي بقاوح وبحط لأن يقيني في ربنا حلو ومريحني نفسيا ومخليني متراضي، والله قبل ما بوصل بيتي بيكون ربنا جبر بخاطري قوووي يا إما في شغل جاء لي يا إما جاء لي خبر حلو فرحني طول اليوم.. يا إما «وهو الأهم»، ربنا زاح عني تفكير في أي هموم وخلاني رايق جدا حتى وأنا مفلس».
ويواصل حديثه لي: «مهما الدنيا بتنزنق عليا قوي وبيبقى مافيش قرش إلا يادوب حاجات بسيطة قوي، برضه بتصدق باللي ربنا بيكرمني بيه، وهابخل ليه ما هي في الأصل عطيته وكرمه إداها لي علشان أنا وغيري بس أنا قادر أكسب.. غيري مش قادر وتعبان.. فبيدينا إحنا الاتنين».
ويشرح لي قائلا: «الرزق بيجيلي مش فلوس وبس.. الرزق بيجيلي في مشوار ماروحتوش بعيل من عيالي لدكتور واضطريت استلف علشان الروشتة والكشف، الرزق بيجيلي في زوجة زي الفل راضية بقليله وكاتمة سر بيتها ومحدش عارف إحنا عندنا إيه وعلى لسانها "الخير كتير والحمد لله"، الرزق بيجيلي في معصية كنت هعملها وربنا صرفها عن تفكيري، الرزق بيجيلى في بركة 100 جنيه اللي ممكن تقعد في جيبي 3 أيام وأنا متراضي وبيتي مش حاسس بنقص أو ممكن تقعد في جيبي نص ساعة من غير ما أحس بفايدتها، الرزق بيجيلي في لقمة بسيطة آكلها الصبح وأفضل بيها شبعان طول اليوم مش حاسس بجوع، الرزق حاجات كتير حلوة ربنا بيحطها في قلبك بتحس حلاوتها بالرضا والطمانينة والسكينة أن مدبر الكون خلقك وعمره ما هينساك ولا ينسى رزقك ولقمتك».
وختم كلامه: «صدقني كل ما تكون مزنوق ومفلس تصدق باللي تقدر عليه حتى لو كان جنيه واحد، هاتغير في مجرى رزقك الضيق تماما».
يقول الله عز وجل في محكم آياته: (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ).
ويقول جل وعلا: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... )، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وورد في السنة النبوية: {ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا}.
و{ما نقصت صدقة من مال}.
الصدقة يَحدث بها انشراح للصدر، وراحة القلب وطمأنينته، فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا اتسعت أو فرت على جلده حتى يخفى أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع (فالمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلمَّا تصدَّق اتسع وانفسح وانشرح، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصَّدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقيًا بالاستكثار منها والمبادرة إليها وقد قال تعالى: "وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ".
وهى علاج وشفاء: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة".
هي أموال الله، ليست بأموالنا يعطيها لنا، أمناء عليها، مجرد وسطاء لغيرنا، يصيبنا منها فقط ما يكفي حاجتنا، ويقيم أصلابنا، ويصلح أحوالنا، فلك اللهم الحمد على نعمك التي لا تعد ولا تحصي.