أفشوا الحب بينكم
وجدته قريبا مني، ذاك الهاجس المؤرق الذي يفزع منه جميع الخلائق قاطبة، هاجس الاقتراب من شفير الموت، أن تشعر في لحظة ما إن حياتك التي تصول، وتجول فيها، بأجواء من التحليق على الفرص، من إبهار الآخرين، والعظمة والافتخار الشديد بذاتك، و"النفخة الكدابة"، من إجحاف حقوق الآخرين والفرحة بالتغلب عليهم، من أجواء اللامبالاة والخيلاء الفاجر، بالقوة والصحة والقدرة على الناس.
إلى لحظة يستوى بها كل شيء، يمر شريط حياتك القاسي أمام ناظريك، ليتحرك المؤشر الأحمر لديك أن كل شيء لم يعد على ما يرام، أنك لا بد أن تعي الدرس، تفكر بجدية في دفاترك القادمة متوكلا على الله، ناظرا إياه فقط، مراقبا في أعمالك وخطواتك وكل دنياك، فقد تجسد المنهج أمامك كاملا في لحظات خاطفة، مادت بها الأرض تحت قدميك، وخارت قواك وشعرت أنك لا شيء، لا أحد، بل لم تكن من الأساس.
ما أقسي أن تكون في لحظات العنفوان، ثم تأتى لحظة لتزعزع ثقتك في نظرياتك الفعلية، تعطيك "قرصة" بسيطة من أذنيك، لتخبرك أن هناك من هو أقوى منك، بل أشد منك، بل يصرعك ويطرحك أرضا بلمس أكتاف ثلاثي العدد، ألا وهو جند من جنود الله "المرض".
لم يكن مرضا قدر ما كان عارضا طبيا وسيزول بإذن الله ورحمته، ولكنه في الأساس رسالة من الخالق إلى أحد مخلوقاته الضعيفة الهشة، هذا الكائن الذي ربما يمشي في الأرض مرحا مختالا فخورا، بما صنعه وقدمه في حياته، وهو عند الله لا يساوى بدنياه الغرورة تلك، جناح بعوضة.
ودعنى منذ شهرين أعز صديق ورفيق عمر، وقد كان يستعد لزفافه الذي تأخر كثيرا وكثيرا جدا لأسباب عائلية، وقد بلغ عامه الثالث والأربعين، كنا نحثه كثيرا على الزواج، وكان يرد: "كله بأمر الله وبوقته"، جهز شقته، أثاثه، حجز قاعة الزفاف، دعا الاقارب والأحباب، اتفق مع النقاش على اللمسات النهائية، غادر شقته ذات ليلة قبيل زفافه بأيام، خلد للنوم، لكنه لم يستيقظ ثانية، وزففناه فعليا، لكن إلى قبره.
لحظات بسيطة تدعوك للتفكير في ماضيك، وحاضرك، ومستقبلك، لحظات تتمنى فيها أنك لو لم تكره، لم تعاد، لم تستسغ أكل الحقوق، لم تغتب، لم تقس، لم تفرط في إظهار قوتك على غيرك، لم تظلم، لم تعق والديك، لم تنهر يوما شريك حياتك، لم تسرف في إغضاب الله عز وجل، لم تتباه بمعاصيك.
تتمنى أن يكون حسابك آني الدفع والسداد، قبل أن يؤجل إلى الآخرة، أن تدفع ثمن ما ارتكبت حاضرا وليس مؤجلا، قبل أن تدفعه مضاعفا وباهظا، أن ترد الحقوق والأمانات، وترفع الظلم، وتعفو وتصفح، وتبتسم، وتعطى الفرصة مرة واثنتين، بل وعشرة، قبل اتخاذ مواقف انفعالية، ربما تندم عليها.
ملخص الحكاية، كلنا إنسان، وهو أضعف مخلوقات الله، لكن الله كرمه ووضع فيه مقومات كثيرة كى يكون مفضلا على سائر المخلوقات، وهذا الإنسان ليس أمامه فعليا إلا أن يحب نظيره في الإنسانية، أيا كان وصفه ولونه ودينه، فيعفو ويصفح ويلتمس الأعذار، لكى يقترب من حافة الهدوء والطمأنينة والسلام النفسي، بالابتعاد عن أي مصادر صراع أو تناحر قد تودي إلى الهلاك.
فالعمر لحظة قصيرة، وقد تأتيك ساعتك في أي لحظة، فقط حاول قدر المستطاع الاستقامة، ليس مع الإله الخالق فقط، ولكن مع مخلوقاته، فالله عز وجل يحب العدل، والإنصاف، يحب المودة فيما بيننا، الله يحبنا جميعا، فلم لا نفشي الحب بيننا ونجعله منهجا ونبراسا، لنجرب أن ننعم بالهدوء بلا تناحر.