حقيقة مستشفى ٥٧
«ربما لا تقودك الأرقام الصماء إلى الحقيقة، فوراء الأرقام قصص وحكايات لا يمكن الوصول إلى أعماقها دون أن تكون جزءا من طريقة نسجها».. هذا ما قاله لي "عم حسن رياض" الذي أعرفه منذ سنوات طويلة، معلقًا على تناول الزميل أسامة داوود لمستشفى ٥٧٣٥٧ في تحقيق صحفي نشر اليوم على صفحات العدد الورقي لـ«فيتو»، قدم فيه أسامة مجموعة من الأرقام حول الإنفاق على العلاج والإنفاق على الأجور والإنفاق على الدعاية، تحت عنوان "رحلة وهم هدفها المال".
قال لي عم حسن، صاحب واحدة من أعمق المآسي الإنسانية التي عاشها مع ابنه "عبد المنعم".. لاحظ عم حسن أن وزن ابنه في تناقص مستمر حيث وصل وزنه إلى ١٨ كيلو جراما، وهو في عمر الحادية عشرة.. ذهب الأب بابنه إلى عدد من المستشفيات، وطرق أبواب أطباء كثر دون وصول إلى تشخيص دقيق.. من طبيب إلى آخر ومن مستشفى إلى آخر ومن دواء إلى أدوية أخرى، وهو لايزال يدور في فلك الحيرة القاتلة.
في مستشفى أبو الريش نصحوه بزيارة مستشفى ٥٧٣٥٧، وقد كان.. ذهب الرجل إلى هناك كما يروي هو تفاصيل ما جرى.. اكتشفوا أن الطفل مصاب بـ«لوكيميا الدم».. يقسم عم حسن بأغلظ الأَيْمان بأنه كمن كان يعاني ويلات الموت البطيء مع ابنه، حتى وجد نفسه في عالم من الملائكة.. يقول: "أنتمي إلى الطبقة الكادحة لا واسطة لي إلا ربى وحسبي ربي.. طرقت الأبواب هناك.. حجزوه، وهناك رأيت عالمًا آخر من الإنسانية التي كنت أقرأ عنها في الكتب".
شهر كامل عشت فيه ملحمةً لم أكن أتصور أن أرى مثيلًا لها حتى في الأحلام.. طواقم الممرضات مدربات على التعامل النفسي والطبي.. أصبحن بعد ثلاثة أيام أكثر تأثيرًا على ابني مني ومن أمه.. المستشفى حالة من البهجة.. مسرح.. مرسم.. غناء.. ترفيه.. كان ابني عبد المنعم من النوع الذي يصعب إرضاؤه في الطعام.. كانوا يقدمون له ورقة يكتب فيها ما يرغب في تناوله.. يتم تسليم الورقة إلى الشيف.. يأكل ابني ما أراد.
بعد شهر وانا بين الرجاء والأمل.. تطاردني هواجس الليالي الصعبة قبل وصولي إلى هناك.. في كل يوم أرى ابني وقد توردت خدوده.. وسرى الدم في عروقه حتى وصل وزنه خلال هذا الشهر إلى ٢٨ كيلو جراما، وأصبح يسير على قدميه بعد أن كنا نحمله.. تفاصيل العلاج والمتابعة واحدة من ألف ليلة وليلة.. ملائكة في صور بشرية يحيطون بابني وبكل طفل في المستشفى.. ابن الخفير مثل ابن الوزير.
عدنا إلى بيتنا ومعنا عبد المنعم حيًّا يتحرك مثلنا.. يضحك ويذاكر دروسه ويتواصل مع أطبائه وممرضيه بعد أن ارتبط بهم برباط إنساني مدهش.. كل أسبوعين كانت إدارة المستشفى ترسل إلينا طبيبة بسيارة خاصة لسحب عينة من طفلي، ولم نشعر يوما أنها ضجرت من هذا المشوار في تلك المنطقة الشعبية التي نعيش فيها.. يتابع معنا استشاري بصورة مستمرة.. منحونا رقم هاتفه نتواصل معه في أوقات الضرورة إذا ما ظهرت علامات بعينها عليه.
يختم عم حسن كلامه بقوله: "إنني مدين بحياتي وحياة ابني لكل عامل بهذا الصرح العظيم.. مدين لعامل النظافة ومدين لعامل الأسانسير ومدين لكل ممرضة ترسم برحمتها علامات الرضا على وجوه أطفالنا.. مدين لكل طبيب يضع نفسه رهن العلم والرحمة.. مدين لكل من أسهم ويسهم في بناء واحد من أهم إنجازات المصري في العصر الحديث.. فلاحا كان أو عاملا.. غنيا كان أو فقيرا وأقول لكل من لا يعرف مستشفى ٥٧٣٥٧: ليس عليك إلا أن تقوم بزيارة لتعرف أن قصص النجاح أكثر كلفة من كل أرقام الدنيا، وأن الأرقام كلها تتضاءل أمام أمل يعيد الحياة إلى طفل كان في مواجهة الموت".