الوقت و«جلال الصيني»
"علشان عارفكم بتتأخروا يا مصريين"، جملة حاسمة قالها لنا مرافقنا الصينى "جلال"، وهو يهم بتوديعنا أنا وزملائي مغادرين الأراضي الصينية، وتعود الحكاية عندما أخبرنا جلال أن موعد إقلاع طائرتنا، هو العاشرة صباحا، وأنه لا بد أن نجتمع في المطار قبلها بوقت كاف جدا، ولهذا فلا بد من الاستيقاظ المبكر للحاق بالطائرة في موعدها أي أن نكون في المطار على الأقل الساعة الثامنة صباحا.
جهزنا حقائبنا، حزمنا أمتعتنا، ونحن نسابق الزمن ما بين متأخر في الاستيقاظ، وما بين من يريد التسوق، خاصة في حالة ضيق الوقت الشديد.
وصلنا المطار، ونحن نتخيل أن الطيار ومساعده، قد أطلقا عربات بمكبرات صوت في كافة أرجاء المطار تنادى علينا، وتستحلفنا بالله أن نشحن أنفسنا في "أي حتة والسلام" داخل الطائرة، لأننا "تأخرنا ــ تأخرنا ــ تأخرنا" عن موعد الإقلاع الرسمي بما يزيد على ثلث الساعة.
سألنا "جلال" ونحن نلهث: أين الطائرة المصون، ومن أي بوابة سنستقلها، فرد بكل أريحية، وثقة بالغة في النفس، ولغته العربية "المكسرة" تحولت فجأة إلى عربية سليمة تماما، بحروف منظمة: "الطائرة موعدها الحقيقي في الثانية عشر، وليس العاشرة، واضطررت أن أقول لكم هذا الموعد الوهمى لأننى بعد معايشتى للمصريين زمن طويل، أدركت أنهم لا يهتمون بحساسية الوقت وأهميته.
فلو كنت قلت لكم الموعد الرسمي للإقلاع ستأتون متأخرين عنه، وربما قد تفوتكم الطائرة، وبالتالى تتأخرون في موعد العودة إلى مصر، خاصة أنكم ستستقلون طائرتين بعد هذه الطائرة، أما وبما أن قلت لكم موعد إقلاع مبكر جدا عن الموعد الرسمي، فقد ضمنت وجودكم جميعا في أرض المطار منتظرين الرحلة!".
ألقاها كالقنبلة، بكل براءة في أوجهنا، وسادت بعدها حالة من الوجوم الشديد على الحاضرين.
"أعترف أنني أتأخر عن مواعيدي، أو على الأقل أتعافى حاليا من هذا الداء بل إنني في الحقيقة فَوَّتُ أكثر من موعد نهائي حُدد لي لتسليم هذا العمل، بشكل متكرر، وعلى نحو محرج بطبيعة الحال، لكن يمكن اعتبارى مريضا".
هذه الجملة، قالها زميلى الماهر جدا في عمله والمتمكن فيه، وهو حزين أن تأخيره الدائم على مواعيده، سبب له الكثير من المشكلات وضيع عليه الكثير من الفرص المهمة التي كان من الممكن أن يقتنصها لولا إهماله.
في عام 2015، كتب "تيم أوربان"، وهو متحدثٌ في ما يُعرف بسلسلة مؤتمرات "تيد"، والذي يصف نفسه كذلك بأنه شخصٌ يتأخر على الدوام، أن لدى أقرانه من المتأخرين "دافعا قهريا غريبا من نوعه لإلحاق الفشل بأنفسهم"، بل وأطلق على أصحاب هذه الأرواح التعسة وصف "المهووسين بالتأخر على نحو مزمن".
وعلى النقيض تماما، تجد أناسا كثيرين يلتزمون بالمواعيد، يدركون أهمية الوقت بشدة، وربما باتت عادة متأصلة في كيانهم ووجدانهم، الذهاب إلى مواعيدهم قبلها بفترة كافية جدا، وربما تجد هؤلاء عرضة للإصابة بأمراض الضغط العصبي ونوبات الغضب الشديد، حيال تاخر الآخرين الموازى لهم، متسائلين: هل حقا نحن نوع غريب من البشر؟.
ربما كان تعبير الشاب الصينى "جلال" يدعو للسخرية، لكنه في باطنه يحمل معانى الألم البالغ، فلم يكن يقصد "جلال" من كانوا في هذه الرحلة، وقد كانوا قدر الالتزام والاحترام التام للمواعيد، ولكن بحكم معاشرته لفئات كثيرة من المصريين إبان دراسته في مصر لمدة 5 سنوات، أصدر هذا التعميم، وأصبحت حالة التعميم تلك تدعو للأسى.
فمثلا لو كان لدى أحدنا موعد في العاشرة تماما فإنه قد يخاطب من ينتظره بتلك الطريقة: "هاجيلك 10، 10 ونص، ولو اتاخرت خالص 11"، ساعة من الزمن كاملة تضيع في فرضية الاحتمالات، وتعطيل المصالح، والاستهانة بوقت الملتزم بوقته، دون أي اكتراث.
يقول "ملتزم" بمواعيده: "التأخر عن المواعيد يزعجني كثيرا، ومجرد التفكير في ذلك يجعلني أشعر بعسر في الهضم وكوني أتأخر عن المواعيد، يجعلنى أتصبب عرقا، وكلما زاد تأخري أبدو وكأني قادم من حمام سباحة".
إننى، وبما أننى أحد ضحايا الضغط العصبي، بسبب الوقت، نظرا لأننى ممن يفضلون الذهاب إلى أي موعد أو توقيت عمل مبكرا، قبله بوقت كاف، أدعو إلى السعى إلى تغيير هذا الانطباع السيئ المأخوذ لدى بعض الشعوب عنا، وعن إهمالنا لأهمية عنصر الوقت في حياتنا، فالوقت حياة، وقد ينهى حياة.