رئيس التحرير
عصام كامل

مساجد تهوي إليها القلوب في رمضان.. «عمرو بن العاص» أولها وتاجها

فيتو

لطالما كانت لصلاة التراويح مكانة خاصة في قلوب المصريين، ينتظرون رمضان من العام للعام؛ لكي يملأون مساجد المحروسة أملًا في التقرب إلى الله، وطمعًا في الرحمة والمغفرة، وتحتل بعض المساجد مكانة مميزة في قلوب المصلين تهوي نفوسهم إليها، ويأتي مسجد عمرو بن العاص على رأس هذه المساجد، التي تكون لصلاة التراويح بين أروقتها مذاق خاص، حيث تتجلى بين جدرانه الروحانيات الإيمانية، وتشهد أروقته على تاريخ طويل مديد.



تعود حكاية هذا المسجد إلى زمن عتيق، حينما أقنع الصحابي عمرو بن العاص، فاتح مصر الذي أنقذها من حكم الرومان الطاغي، الخليفة عمر بن الخطاب بضرورة بناء مسجد جامع في مصر، والذي يُقال حول سر اختيار مكانه الأقاويل، وفى إحدى الروايات، يُحكى أن عمرو بن العاص حينما فتح مصر، أقام خيمته أو "فسطاطه" على الجانب الشرقي من النيل، ولكنه قبل أن يشرع في مواصلة حملته ضد الرومان، وجد أن حمامة قد اتخذت من أعلى فسطاطه هذا عشًا، وضعت فيه بيضها، فاستبعد بن العاص فورًا فكرة هدم الفسطاط هذا.


وبعد عودته من الإسكندرية، أعلن ابن العاص عن تأسيس عاصمة مصر الجديدة (الفسطاط) نسبة إلى خيمته، وفي محيطها أنشئت المدينة، وفي مكان هذا الفسطاط حدد مكان مسجده، وهي البقعة التي تطل على النيل إلى الشمال من قلعة بابليون؛ ليصبح مسجد "عمرو بن العاص" الذي شرع المسلمون في بنائه في عام 21 هجريًا هو الأول في مصر وأفريقيا، ووقف على إقامة قبلته، كما يقال، نحو ثمانين صحابيًا.


كان المسجد حينما تم بناؤه يطل على نهر النيل العظيم، فقد كانت القاهرة لاتزال سماؤها في هذا التوقيت مفتوحة، ولم يغزها بعد البنيان؛ لذا فكان من السهل رؤية النيل من مكان المسجد، وكان حينها مساحته تبلغ 675 مترًا، وكان له 6 أبواب، اثنين من الغرب، وآخرين من الشمال، واثنين باتجاه دار عمرو بن العاص من الجهة الشرقية.

كان المسجد بسيطًا حينما بني، وكانت مواد بنائه من الخشب وسعف النخيل والأحجار الخشنة، التي جمعت من المنطقة المحيطة به، ومن قوالب الطوب اللبن، وبني السقف من جذوع النخيل، ولم يكن للمسجد محرابًا أو صحنًا أو منارة، وجدرانه كانت أيضًا بسيطة خالية من الزخارف، وكسيت أرضه بالحصى، وكان به بئرًا تُعرف بالبستان كان يعتمد عليها المصلون في الوضوء.


اشتهر مسجد عمرو بن العاص بأنه أول مسجد جامع في الإسلام، وعُرف باسم "تاج الجوامع" أو "الجامع العتيق" أو "مسجد الفتح"، ولكن مظهره البسيط لم يستمر طويلًا، فقد ظل على حاله هذا فقط حتى عام 53 هجريًا، عام 672 ميلاديًا، حينما خضع للتطوير في عهد مسلمة بن مخلد الأنصاري، والي مصر في عهد معاوية بن أبى سفيان، حيث ذكر ابن عبد الحكم في "فتوح مصر"، أن مسلمة زاد في المسجد بعد بنيان عمرو له، وبنى فيه المنارة التي كتب عليها اسمه، وفى عام 77 هجرية، هدم عبد العزيز بن مروان المسجد، ثم بناه مرة أخرى، وهذا ما فعله أيضًا الوليد بن عبد الملك الذي أمر واليه في مصر بهدم المسجد، ثم أعاد بناءه مرة أخرى، وزخرفته.


وتوالت التطويرات التي خضع لها المسجد، وإبان الحملة الصليبية على بلاد المسلمين عام 564 من الهجرة، تسلل الخوف إلى نفس الوزير شاور بن مجير السعدي، وزير مصر آنذاك، من أن يحتل الصليبيون مدينة الفسطاط، بعد شعوره بالعجز عن الدفاع عنها، فحرقها ودمر المدينة القديمة، وبطبيعة الحال تضرر المسجد العتيق، وتخرب مع ما تهدم من الفسطاط، ولكن أعاد إليه فيما بعد صلاح الدين الأيوبي بهاءه، حينما ضم مصر إلى دولته، وأمر بإعادة إعمار المسجد من جديد عام 568 هجرية، بعد إعادة بنائه، فبني المحراب الكبير الذي كُسِيَ برخام، وزُيِّنَ بالنقوش، من بينها اسم صلاح الدين.

توالت الإصلاحات بالمسجد مع توالي التغيرات في نظم الحكم السياسية في مصر، وفي عام 1940 قامت لجنة حفظ الآثار العربية بإصلاح شامل بالجامع، ووصلت مساحته الآن إلى نحو 120 في 110 أمتار، ويتكون المسجد حاليًا من صحن تقليدي مفتوح تحيط به أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة.


كان مسجد "عمرو بن العاص" أول مدرسة دينية في مصر، ولم يكن يُدرس به إلا علم اللغة والدين، وشهد حلقات علم كان يُلقيها كبار العلماء قبل أن يشهدها الجامع الأزهر بقرون، وكانت كل هذه الدروس العلمية تُعقد تطوعًا وبدون أجر، كما أن المسجد أيضًا كان مجلسًا للقضاء لفض المنازعات الشرعية والمدنية، وفي بعض الفترات كان به بيتًا للمال، ولقد اعتلى منبر المسجد العتيق أعلام من العلماء، ألقوا دروسًا وترددت في الأرجاء خطبهم ومواعظهم، على رأسهم الإمام الشافعي، الليث ابن سعد، العز بن عبد السلام، ابن هشام صاحب السيرة، وغيرها من كبار الأسماء في التاريخ الإسلامي.
الجريدة الرسمية