رئيس التحرير
عصام كامل

أعجب بعبد الناصر ووقع ضحية حوار السادات.. حكايات يوسف إدريس مع رؤساء مصر

 يوسف إدريس
يوسف إدريس

عاش طيلة حياته على فوهة البركان، يتعامل مع السياسة بمنطق الفنان الذي جمع بين المتناقضات.. كفر بالالتزام الحزبي وضرب به عرض الحائط وحطم التابلوهات، فكان يساريًا يؤيد حزب الوفد، آمن بثورة يوليو، وعارضها حد الاعتقال فيما بعد، إلا أنه ظل دائما إشعاعا أدبيًا يكشف الزيف ويصارع التلفيق ويضرب المخاتلة، بل هو العصب العاري الذي ينبض بحب مصر.


داخل منزل متواضع، كان اللقاء الأول الذي جمع يوسف إدريس وجمال عبد الناصر، عقب قيام ثورة يوليو مباشرة، استقبله ومرسي الشافعي، مدير تحرير جريدة المصري بوقار وهدوء، دارت تفاصيل اللقاء داخل غرفة نوم بسيطة للغاية للبكباشي جمال، كان يرتدي وقتها بيجاما مقلمة، يصفه يوسف جيدًا ويقول: «بمجرد ما رأيته عرفت أنه الرجل القوى، أعجبت به كثيرًا وتأثرت بشخصيته كان يستمع إلينا بطول بال شديد وصبر أشد، كان لا ينظر في عينيك وأنت تتحدث إليه، وفجأة تنقض عيناه على عينيك في لمح البصر، تحس أنها نظرة غدرت بك فجأة، أخذتك دون استعداد، فإذا خطر في بالك أن تكذب في وجوده أو حتى تتفوه بشيء ينتابك خوف مجهول على الفور».

كان عبد الناصر منظمًا كتومًا يسمع أكثر مما يتحدث، وكان يوسف على النقيض صريحًا، فوضويًا، وساخطًا، وربما هذا الاختلاف كان سببًا رئيسيًا في إعجاب الأخير بجمال عبد الناصر، أولى لقاءاتهما كانت بسبب رواية الهجانة التي أغضبت السودانيين وقتها، وكذلك أغضب محمد نجيب رئيس الجمهورية آنذاك - فهو بطبيعة الحال نصفه سوداني-، ولا سيما أن الرواية تطرقت إلى مخاوف الكاتب، أن تتحول الثورة إلى مجرد انقلاب عسكري لضرب الحركة الوطنية، ويقول: «ذهبت أتوسط لديه لتهدئة الأجواء دون أن يلاحقني مصير عبد الرحمن الشرقاوي، الذي اعتقل بقرار من محمد نجيب على خلفية نشر رواية مسلسلة باسم «الأرض» كتب فصلا فيها عن تصرفات عساكر الهجانة مع الفلاحين».

وفي ١٩٥٤ كانت بداية صفحة جديدة أكثر قتامة بين نظام عبد الناصر ويوسف إدريس، إذا أنه كان من ضمن الشيوعيين المتهمين بقلب نظام الحكم، يروي تفاصيلها التي بدأت في بيروت وانتهت بسجن القلعة، ولا سيما العلاقة بدأت تتوتر بينهما عقب أزمة مارس ١٩٥٤، بين مجلس قيادة الثورة، فهنا زادت مخاوف يوسف ورفاقه التي سردها في روايته بشكل درامي، وهنا أيضًا قطع صلته بتنظيم «حدتو» الشيوعي، يقول: صباحًا يصدر بيانًا مؤيدًا لعبد الناصر، ومع الظهيرة يصدرون بيانًا مؤيدًا لموقف محمد نجيب، في وسط هذه الأجواء سافرت إلى مؤتمر الأدباء في دمشق، وبعدها اتجهت إلى بيروت في طريق العودة للقاهرة.

وفي العاصمة اللبنانية الطريق كان ممهدًا لاعتقاله، فهناك تقابل والصحفي أحمد أبو الفتح، رئيس تحرير جريدة المصري، التي أغلقها مجلس قيادة الثورة في ذات العام، وتحدثا حول إمكانية طبع منشورات في بيروت يتم تهريبها إلى مصر عن طريق دمياط.

عاد يوسف من بيروت إلى القاهرة وتحدث إلى أعضاء التنظيم المتعاطف معه عن تفاصيل المقترح، وحينها طلبوا منه تقريرًا مفصلًا عنه يقول: كتبت التقرير وإذا بي أمام اعتراف كامل بالمشاركة في مخطط لقلب نظام الحكم، هرولت مسرعًا وأخفيته في قلب تمثال أجوف لشقيقي الطالب في كلية فنون جميلة، بعد أيام جاء ليختبأ في منزلي صديقي صلاح حافظ، وجاءت المباحث العامة لاعتقاله، واعتقالي أنا معه، في تهمة غير الشيوعية، ولكن هذه المرة لمشاركتي في مؤامرة لقلب نظام الحكم، فهم بالطبع يعلمون بأمر تقرير بيروت، ولكن تمثال أخي نجاني من ويلات الاعتقال لعشرات السنوات، واكتفوا بعام ونصف العام».

عشاء أخير وحوار في جريدة الأهرام، كانت نهاية العلاقة التي جمعت بين محمد أنور السادات، ويوسف إدريس، تفاصيلها يرويها هو نفسه للكاتب الصحفي رشاد كامل الذي دونها في كتابٍ بعنوان «الصحافة والثورة» يقول: في نهايات ١٩٥٧ عرفت السادات عن قرب في جريدة الجمهورية، التي كنت أعمل بها، ولا سيما أنه كان مسئولا عن دار التحرير. آمن بى ككاتب، وعهد لي أن أعد كتابًا عن العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦ حمل اسم «القصة الداخلية لحرب السويس» طلبته منه إحدى دور النشر الإنجليزية، تلاه كتاب آخر اسمه «معنى الاتحاد القومي» يبلور فكرة الثورة كتنظيم، في محاولة للعثور على نمط جديد غير الشكل الحزبي القديم.

سياسيًا، تطورت العلاقة بين «السادات» و«إدريس» سريعًا، فعين الأخير سكرتيرًا مساعدًا له في الاتحاد القومي - التنظيم السياسي الوحيد آنذاك- بل وانتدبه للعمل معه في المؤتمر الإسلامي الذي كان يترأسه، ظلت الأجواء هادئة وودودة، إلى أن طلب السادات منه إعداد مشروع عن هيكل التنظيم، وإذا بالكاتب الصحفي مصطفى أمين يكتب عنه فتوتر الأجواء بعد ما كتبه «أمين».

وصلت حالة التوتر إلى الذروة، عندما أجرى يوسف إدريس حوارًا صحفيًا، مع أنور السادات نشر في جريدة الجمهورية، تركز محاوره حول فكرة الاتحاد القومي، وخلال المقابلة سأله الصحفي الشاب، هل يسمح بدخول الاتحاد، من مارسوا نشاطًا سياسيًا من قبل؟!، لأجل هذا السؤال قامت الدنيا، وغضب جمال عبد الناصر، الذي هاتف الأستاذ محمد حسنين هيكل حينها، وسأله هل قرأت حوار يوسف إدريس مع السادات؟ فأجابه نعم، رد ناصر: «دا مش رأي السادات دا رأي الشيوعيين في الاتحاد القومي».

قبل اتصال جمال عبد الناصر بهيكل، كان قد صدر قرارًا بتعيينه في جريدة الأهرام التي يترأس تحرير الأستاذ هيكل، الذي أعجب بحواره مع السادات، ونشره في مقدمته، وعهد إليه مهمة إجراء حوارات صحفية مع شخصيات سياسية مرموقة، وكان قد شرع بالفعل في الترتيب لحواره الثاني، مع أكرم الحوراني، السياسي السوري، ولا سيما أن الوحدة بين البلدين كانت لا تزال قائمة.

الجميع علم كل شيء إلا يوسف إدريس، الذي اتجه بعفوية وثقة مطلقة إلى مكتب الأستاذ هيكل، كي يرتب معه محاور المقابلة الصحفية مع السياسي السوري، وإذا بنوال المحلاوي، مدير مكتب الأستاذ، ترفض دخوله: الأستاذ مش فاضي ومش هتدخل ومش هيقابلك، هنا وبعد الـ«لا» الثلاث، وبعد أيام قليلة من تعيينه قرر يوسف يثأر لكرامته وتقدم باستقالته على الفور كرد فعل سريع، لتلاحقه المحلاوي بابتسامة عريضة: «استقالة إيه؟! أنت مرفود وليك شهر عندنا روح أقبضه من الخزنة».

خرج «إدريس» من مبنى الأهرام يجرجر أذيال الخيبة، يحمل بين أوردته بركانًا من الغضب، وعلامات استفهام، لم يستطع أن يوجهها لنوال حفظًا لماء وجهه، وما كان به إلا أن يتجه نحو مقر المؤتمر الإسلامي، فاستقبله كشفا بأسماء المفصولين كان هو على رأس القائمة، ولم تشفع له إعارته من وزارة الصحة لدى المؤتمر.

السادات يجلس على مكتبه بمقر المؤتمر الإسلامي، يقتحم يوسف إدريس عليه جلسته، يستقبله السادات بابتسامة هادئة ويقول: أيوة أنت مفصول، يرد يوسف: بس أنا معار من وزارة الصحة، فيقهقه السادات: سيادتك كمان مطرود من وزارة الصحة، وعلى هذا النحو تم إبعاده أيضًا من الاتحاد القومي وفصله من وزارة الثقافة التي كان يعمل بها، والتي عاد إليها فيما بعد، سبعة أشهر كاملة، خرج خلالها من الشارع السياسي وبريقه إلى أزقة جانبية معتمة حيث البطالة والوحدة والإنكار.

الجريدة الرسمية