المتلونون (٤)
أن تطرح السؤال ثم تأتيك الإجابة فهذا طبيعي، لكن أن تطرح عشرات الأسئلة دون أن تأتيك الإجابة.. فهذا قد يأخذ البعض إلى إحباط يعقبه يأس، مؤخرًا.. تراصت علامات الاستفهام في عرض غير مسبوق حول المتلونين الذين يتصدرون المشهد في بعض القطاعات، أما الدهشة والحيرة من استمرار هؤلاء فجعلتنا نُبدع في رسم علامات التعجب، البعض أخذه إحباطه إلى اليأس، والبعض الآخر -وأنا منهم- رفع شعار (لا يصح إلا الصحيح)، ففي دولة عانت في السنوات الأخيرة من تجار الدين والوطن.. وفي ظل منطقة تغلي وأنت فيها مستهدف.. قد يتأخر الصحيح، لكنه قادم لا محالة.
رذاذ شعاري بدأ يتساقط، ليسقط أقنعة المتلونين، ويخرج الكثيرون من دائرة الإحباط واليأس، سقط قناع هذا الرجل الذي أدهشنا بقدرته على التلون، ففي عصر الرئيس الأسبق مبارك.. كان يدعي قربه من النظام فتنفتح أمامه الطرق المغلقة، قدرته على استخدام أدواته غير المشروعة جعلته (وفقًا لكلامه) أحد المرشحين لأن يكون أحد أطباء مبارك.
حصل الرجل على تقدير مقبول من كلية الطب جامعة المنصورة، ثم فاجأ الجميع بتعيينه معيدًا في إحدى جامعات الصعيد، ومنها انتقل للعمل مدرسًا في جامعة عين شمس بعد حصوله على الماجستير والدكتوراه، وفجأة.. تحول إلى قيادة مهمة في وزارة التعليم العالي، وصار مسئولًا عن أهم قطاعاتها، يمنح ويمنع وفقًا لأهوائه، فإذا كنت من المحظوظين.. فعليك أن تختار الدولة التي ترغب في العمل بها مستشارًا ثقافيًا، وإذا كنت من المغضوب عليهم..
فعليك أن تنفذ تعليمات السيد مساعد أول الوزير، ولا تعترض إذا كانت تعليماته عودتك من دولة حققت فيها إنجازًا لبلدك، وتصديت فيها لجماعة الإخوان، أو كانت تعليماته التشكيك في نزاهتك وإطلاق الشائعات التي تنال من سمعتك.
كنت شاهد عيان على إحدى ضحاياه التي تصدت لمخطط إخواني في دولة تحتضن قيادات الجماعة الهاربين من أحكام قضائية، أرسلت الضحية بتفاصيل المخطط إلى مساعد الوزير ليعينها على مواجهة الجماعة التي جعلت من نشيدها بديلًا للنشيد الوطني في المدرسة المصرية بهذه الدولة، فكان جزاؤها المثول أمام النيابة في قضية تم حفظها.
وكنت شاهدًا على انخراط هذا المتلون مع قيادات الإخوان، فمنذ خمس سنوات.. كنت مدعوًا لحفل نظمته سفارة إثيوبيا بالقاهرة لبعض أساتذة جامعة المنصورة بعد نجاح زراعة كلية لطفلة إثيوبية، دخل المتلون القاعة بصحبة القيادي الإخواني حسن مالك، فصاح زميلي.. معقولة؟! هذا الرجل الذي يخلي الطريق أمام حسن مالك كان قريبًا من نظام مبارك، وطالما سمعت تطاوله على الإخوان، كيف تحول بهذا الشكل؟
عدوى دهشة زميلي انتقلت إلى بسبب تصرفات الرجل، فقد انكب على أذن القيادي الإخواني، يهمس فيها تارة، ثم ينتقل ليهمس في آذان آخرين تارة أخرى، بعدها يخلي مكانًا بجوار حسن مالك لكل من همس في أذنه، لم يستطع أحد التحدث مع مالك إلا بعد تصريح منه، ثم انصرف مالك، وخلفه انصرف المتلون.
ظل الرجل في صدارة المشهد بعد الإطاحة بالإخوان، وكأنه من قاد ثورة الشعب عليهم، ليفاجئ الجميع بمنصب هو الأهم في وزارة التعليم العالي، مفاجأة أدخلت الكثيرين في دائرة الإحباط، لكن رذاذ الإصلاح جاء ليسقط عنه القناع، ويطيح بأحلامه، ويثلج صدور المحبطين، وباستبعاده.. أصبحنا على يقين أن الرذاذ مقدمة لسيل سوف يطيح بالأكلين على كل الموائد، فقط.. هي مسألة وقت.
basher_hassan@hotmail.com