رئيس التحرير
عصام كامل

صارت كل الأشياء تُشترى!

في نهاية عام 1993 وبعد إعلان اتفاقية أوسلو الفاشلة، أعلن الكاتب المسرحي علي سالم، أنه يفكر في زيارة إسرائيل بسيارته لتأليف كتاب يجيب على سؤالين: “من هم هؤلاء القوم؟ وماذا يفعلون؟”، كأن المسكين عاش دهرا كان فيه لا يعلم ولا يدري.. ثم نشر مقالًا في مجلة الشباب المصرية بعنوان “السلام الآن”، قال فيه متفلسفًا متفقهًا متهافتًا:

"إن الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يشكل لحظة نادرة في التاريخ!.. إنها لحظة اعتراف الأنا بالآخر، أي أنا موجود وأنت أيضا موجود، الحياة من حقي ومن حقك الحياة". 

وتناسى الرجل عشرات الألوف من الفلسطينيين والمصريين والسوريين الذي فقدوا حياتهم على يد هؤلاء القوم الذين تطلع إذ فجاة ليعرفهم!. وكما ذكر هو بنفسه وتباهى وتفاخر موثقا رحلته الطليعية التطبيعية، انطلق في الحادية عشرة من صباح الخميس 7 أبريل 1994 ليبدأ مهمته المقدسة والتاريخية كما توهمها، بدأ رحلته مستقلا سيارته من العريش إلى رفح ومنها إلى إسرائيل. 

حينها قوبلت زيارته حينها باستنكار شديد من كل المثقفين الوطنيين المحترمين، وبكثير أيضا من التأييد من بعض أدعياء التنوير من مشايخ اليسار المصري البائس.. وبتحفظ من مثقفي (لللو) الذين ينظرون وينتظرون دوما أين تتجه كفة المنتصر انتظارا للغنائم.. الجدير بالذكر أن الراحل علي سالم رجع بعد رحلته التي سبر فيها غور الآخر الصهيوني بما مكنه من شراء مجموعة سيارات (أجرة) تنتقل بين أحياء القاهرة لتكتشف ما في جيوب فقرائها، الذين مع كل فقرهم وبؤسهم ومعاناتهم، لا يقبلون بإسرائيل التي تركت في بيت كل منهم شهيدا على الأقل!.

قبل ذلك كان العظيم "أمل دنقل" يصرخ في السادات قبيل كامب ديفيد قائلا: "لا تصالح" 
لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تُشترى!

للأسف يا عمنا دنقل، صارت كل الأشياء تُباع وتُشترى، حتى الشرف يُباع ويشترى، ذكرى الألم تُباع بأرخص ثمن، دم الشهداء يهدر ويباع ويشترى بقداسته أشياء تافهة، فما لا يعرفه الكثيرون أن علي سالم هو نفسه مؤلف المسرحية الرائعة “أغنية على الممر”، التي كانت تستعرض بطولات وحياة أبطالنا المقاتلين على الجبهة في الحرب ضد المحتل الإسرائيلي الغاصب.. 

طافت تلك المسرحية كل محافظات المحروسة تقريبا لإحياء الروح المعنوية لمواجهة الاحتلال عقب نكسة 5 يونيو 1967، عمل درامي بديع قام مصطفى محرم بإعادة صياغته كفيلم سينمائي أخرجه علي عبد الخالق متفوقا على نفسه وعلى إمكاناته الإنتاجية المحدودة، ليكون أيقونة سينمائية عن بطولات حروب مواجهة الصهاينة، يتناول الفيلم معاناة جيل كامل من الشباب أفنى زهرة شبابه في الصحراء من أجل هدف وطني متسامي لا يقدر بثمن.

كان أبطال الفيلم متأرجحون بين اليأس من تحقيق النصر واليقين في إيمانهم بقدرتهم على الانتصار للحق الذي طغى وتجبر عليه ووطأته أقدام العدو الصهيوني، تأرجح بين ما يريدون تحقيقه وما يحدث بالفعل، تتصاعد الأحداث حتى تصل لحصار فصيل من فرقة مشاة في صحراء سيناء القاحلة، يدافعون عن أحد الممرات الإستراتيجية ببسالة خارقة ومشرفة رافضين فكرة تجدد الهزيمة..

يحدث هذا في ظل نفاذ المؤن من ماء وغذاء أثناء حرب 1967، هم والموت وجها لوجه فهم بمفردهم في مواجهة الفناء، لحظات تطرح أسئلة وجودية فلسفية شديدة العمق تهزمها عزيمة الأبطال الذي يفضلون الموت على ظن أن تبقى وتعيش بدلا منهم (ضحكة مصر). 

هم أمشاج.. رجال متنوعون طبقيا، فمنهم الفلاح والعامل وأستاذ الجامعة والفنان والمثقف، لكن يوحدهم الشرف والوطنية وشيء كأمن داخل كل منهم لا يتحدثون عنه، لكنهم يشعرون به ويعيشون عليه.. ربما كن الحق، ربما كانت الفضيلة، ربما كانت أشياء أخرى بالقطع لا يعرفها عدوهم الغاصب الإرهابي..

نعم الشرف يوحدهم، تلك الكلمة التي صارت لا تساوي شيئا الآن على ضفاف الريتز كارلتون وضيوفه الذين يحتفلون بنكبة أصابت العرب وفي القلب منهم مصر التي خسرت زهرة شبابها وقادتها في صراعهم مع من يحتفلون به اليوم في قلبها الموجوع، في نهاية الفيلم، يموت ثلاثة من زهور مصر منهم فداءً لأمل قادم في النصر يوما ما. تخيل أن مبدع هذا العمل هو نفسه علي سالم الذي ذهب لإسرائيل ليبارك السلام المزعوم معها في 1993.. نحن الآن في منتصف 2018 ولم يتحقق سلام ولن يتحقق مادامت القوة فوق الحق وما دامت كل الأشياء صارت تشترى.
fotuheng@gmail.com
 

الجريدة الرسمية