رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات الصاغ الأحمر مع رؤساء مصر.. أولها صداقة وآخرها اتهام بالعمالة

خالد محيي الدين
خالد محيي الدين

ستة وستون عاما قضاها آخر من تبقى من شجرة الضباط الأحرار، الصاغ الأحمر "خالد محيي الدين" الذي رحل عن عالمنا صباح السادس من مايو من العام الحالي، بين دهاليز السياسة وأصول الحكم الديمقراطي السليم، حاملا على عاتقه هموم وطن بكامله، متطلعا نحو غد محمل بقيم ثورة 23 يوليو والتي صارع هو وأقرانه من أجلها قوى الظلام والقابضين على ما تبقى من العصر الملكي البائد.


تأرجحت علاقته برؤساء مصر ما بين الصداقة والتأييد ثم الإقصاء، وكذلك تكرار الانتقادات اللاذعة، مرورا بالاتهام بالعمالة لدولة غربية. لكن كانت مصلحة الوطن وإعلاء قيم الديمقراطية هما فلسفة محيي الدين في كل مرة يوضع فيها على المحك مع رئيس تولى إدارة البلاد.

الصديق الأقرب للبكباشي

في شتاء عام 1944، وفي أحد منازل منطقة الدرب الأحمر بالسيدة زينب العتيقة، كان اللقاء الأول بين الرئيس جمال عبد الناصر والصاغ الأحمر الراحل "خالد محيي الدين"، حينما تمت دعوتهما وعدد من الضباط الشباب من قبل المرشد العام لجماعة الإخوان آنذاك "حسن البنا" للقاء المسئول الأول للجهاز السري للجماعة عبد الرحمن السندي، الذي نقلهم بدروه إلى غرفة مظلمة تماما وفقا لما قاله محيي الدين في مذكراته التي حملت عنوان "الآن أتكلم"، لم يروا أصابع أكفهم من شدة الظلام الذي أحاطهم، صمت دام طويلا ليكسره صوت غليظ، وضع صاحبه في يد كل واحد منهم مصحف ومسدس، مجبرا إياهم على ترديد القسم للمرشد، والتعاهد على التحالف والمبايعة على الخير والشر.

تعاقبت السنوات، لتتوالى وتتابع لقاءات خالد محيي الدين وجمال عبد الناصر حتى توطدت العلاقة عام 1949، مع تكوين النواة الأولى لتنظيم الضباط الأحرار، الساخط على سياسات الملك فاروق المتخاذلة أمام ما حدث في دولة فلسطين في العام السابق "نكبة 1948"، وتورط الملك مع قوى خارجية في صفقة الأسلحة الفاسدة.

وبحلول عام 1952، وتحديدا في خريف العام المرتقب، في المنزل رقم 21 بشارع فوزي المطيعي بحي مصر الجديدة، حيث تقطن أسرة الصاغ خالد محيي الدين، الذي وقع عليه الاختيار ليكون مركز تتجمع الضباط الأحرار، يتوافدون الواحد تلو الآخر، متجهين إلى غرفة الصالون، يغلق باب الصالون لساعات، يتهامس الحضور بخطة محددة الوقت والمكان، شرارة كامنة أوشكت على الانطلاق، ليكون مساء 22 يوليو 1952 هو الوقت الحاسم، والذي أعلن فيه محيي الدين والضباط الستة المؤسسون للحركة "جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وعبد المنعم عبد الرؤوف"، موعد التحرك لمبنى القيادة الجيش ومبنى الإذاعة المصرية، والسيطرة على كافة مفاصل الدولة، خاصة بعد إعلان قطاعات مختلفة من قادة الجيش المصري انضمامهم للواء الثورة.

خلافات بين الصديقين

"لقد بذلت جهدي وما زلت حتى الآن أعتقد أنني لو كنت قد حصلت على الفرصة لإنجاح هذه الفكرة، لكان مسار الثورة قد تغير، ولكان تاريخ مصر قد تغير أيضا، ولتحصنت الثورة ضد ما وقعت فيه من أخطاء، من انتهاك لحريات الأفراد والقوى السياسية، ولنهجت نهجا ثوريا وديمقراطيا في آن واحد".. هذه العبارات كانت مفتتح حديث اليساري العضو النشط في الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، الساعي دائما نحو تحقيق قيم الحرية والديمقراطية في مجتمعه الذي ساهم وبقوة في التقدم به نحو حياة أفضل. جنح محيي الدين منذ البداية نحو الديمقراطية، الأمر الذي فتح الباب لخلافات متعاقبة بعد ذلك أدت في النهاية إلى إقصائه في منفاه القسري بسويسرا قبل أن يستدعيه عبد الناصر بعد ذلك ليكون بجواره مرة أخرى.

فالبداية كانت رفضه القاطع لقرار المجلس عقب نجاح ثورة يوليو بإعدام الملك فاروق، نظرا لنزعته السلمية وجنوحه نحو إعلاء قيم الديمقراطية، لتنتصر سلميته في النهاية ويعدل المجلس عن رأيه، بدت أواصر الصداقة بينه وبين عبد الناصر تتفكك بعد أن كان أقرب الضباط له كما ذكر عدة مرات في مذكراته "الآن أتكلم"، لتصبح نهاية عام 1952 بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حينما تمسك محيي الدين بضرورة تغليف الثورة بالديمقراطية، وعودة الجيش إلى ثكناته مرة أخرى بعد انتهائه من مهمته الوطنية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ليترتب على ذلك رحيل الصاغ الأحمر عن مجلس قيادة الثورة، مفضلا النفي خارج الوطن وتحديدا في فرنسا، لكن عبد الناصر خشي بقاءه خارج البلاد، تحسبا لأي محاولة منه للقيام بأنشطة سياسية في فرنسا تعيق اتفاقية الجلاء الوليدة، فاقترح عليه أحد أصدقائه السفر إلى سويسرا، والتي بقي بها سنة وعدة أشهر، لكن الصداقة بينه وبين عبد الناصر ظلت قائمة حتى توطد ملك الثاني في مصر وأصبح رئيسا فعليا وليس شرفيا أو بالوكالة، ليعود إلى مصر مرة أخرى ويبقى بجانب صديقه.

وعادت المياه إلى مجراها

وفقا لما ذكره "جينارو جيرفازيو" في كتابه الحركة اليسارية في مصر، فقد مثل عام 1955 نقطة تحول في علاقة محيي الدين بالرئيس جمال عبد الناصر بصفة خاصة، والحركة اليسارية المصرية تحت قيادة محيي الدين والنظام المصري بصفة عامة، بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر حضور مؤتمر باندونج بالاشتراك مع الدول الاشتراكية الكبرى، ليصبح هذا العام بمثابة "شهر العسل" بين الطرفين، ترتب على ذلك قرار عبد الناصر بتعيين محيي الدين رئيسا لتحرير جريدة المساء، التي تحولت بعد ذلك لمنبر استطاع من خلاله العديد من المثقفين والماركسيين من الوصول إلى القراء بسهولة، بعد أن حرموا من هذا الحق لسنوات.

العمالة للاتحاد السوفيتي
في شتاء عام 1977، هبّ العشرات من المواطنين المصريين إلى شوارع العاصمة والمدن الكبرى، اعتراضا على سياسات السادات الانفتاحية وما ترتب عليها من رفع غير مبرر لأسعار السلع والمنتجات الغذائية، لتحمل اسم "انتفاضة الخبز"، التي تحول فيها وفقا لصاحب كتاب الحركة اليسارية في مصر، كل مصري إلى يساري عتيق وثوري مخضرم، فبدت منضوية تحت لواء الحركة اليسارية المصرية تحت قيادة حزب التجمع التقدمي الوحدوي الذي ترأسه محيي الدين حينما تأسس عام 1976 إبان قرار السادات بضرورة عودة التعددية الحزبية للبلاد.

تصاعدت الأزمة في الشارع المصري، وظهرت قوى يسارية بارزة تحرك المشهد من بعيد، ما دعا النظام المصري باتخاذ ردة فعل غاضبة حيال الانتفاضة التي أطلق عليها "انتفاضة الحرامية" أو "المؤامرة الشيوعية"، على إثرها صدر أمر باعتقال 200 من أعضاء حزب التجمع، صوت المعارضة الأوحد آنذاك.

اتهم حينها الرئيس السادات خالد محيي الدين رئيس الحزب بالعمالة لموسكو "كعبة الفكر الشيوعي العالمي"، خاصة وأن العلاقات المصرية – الروسية باتت تحمل الكثير من نقاط الخلاف، بعد جنوح السادات نحو القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وفض العلاقة التاريخية مع الاتحاد السوفيتي.

شمل أمر الاعتقال رئيس الحزب ذاته، ولكن الحظ حالف محيي الدين ونجا من الاعتقال لأنه كان موجودا خارج البلاد في هذه الفترة. انتقاده للسادات امتد لأعوام كثيرة، بعد أن عارض زيارة السادات للقدس وما أعقبته من توقيع اتفاقية السلام "كامب ديفيد" مع إسرائيل.

يحارب فساد مبارك
كانت "مبادرة المنوفية" التي أطلقها الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في ربيع 2005، من منبره بقرية كفر مصيلحة "مسقط رأسه"، هي نقطة المحك في علاقته بمحيي الدين، ليخرج الثاني عن صمت دام طويلا، حينما أعلن مبارك خلال المبادرة تعديل المادة 76 من الدستور، والمتعلقة بشروط الترشح للانتخابات الرئاسية، بدوره وجد خالد في التعديل ما يشبه دق المسمار الأخير في نعش الديمقراطية المصرية، وتقويض العمل السياسي في البلاد، بعد أن منحت التعديلات المزيد من الصلاحيات للحزب الحاكم آنذاك "الحزب للوطني"، فظل الصاغ الأحمر يحارب بكل ما أوتي من قوة تلاءم رجل تخطى حاجز الثمانين عاما، الفساد السياسي الذي ضرب البلاد إبان حكم مبارك، ليعلن أخيرا تخليه عن رئاسة حزب التجمع، مفسحا المجال للدكتور والمفكر اليساري الكبير رفعت السعيد ليتصدر هو المشهد من منبر المعارضة المصري الأوحد.
الجريدة الرسمية