جمعت 1350 جثة في 7 أشهر.. حكاية فتاة عراقية طهرت شوارع الموصل من «الدواعش»
في شمال العراق، تقع مدينة الموصل، مدينة الأنبياء، التي تحاول التعافى من مخلفات تنظيم داعش الإرهابى المادية والفكرية بعد انتهاء معركة تحريرها التي امتدت من 17 أكتوبر 2016 وحتى 10 يوليو 2017، فالمعركة الضارية الشرسة التي أطلق عليها رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى اسم "دقت ساعة الحدباء"، خلفت آثارا لا تزال ساكنة في الشطر الأيمن من الموصل، فجثث عناصر داعش منتشرة في عدد من جنبات المنطقة ومبانيها، بالإضافة إلى جثث أخرى لمدنيين استشهدوا إبان الأحداث إما بأيدي عناصر التنظيم أو إثر ضربات عسكرية للمناطق التي يعيشون بها.
ورغم أن المعركة انتهت منذ نحو عشرة أشهر، وتحررت الموصل من فصول الرعب والظلم التي عاشتها في ظل وجود عناصر "دولة الخرافة"، إلا أن جثث عناصر التنظيم التي لقت حتفها في الشوارع أو المبانى القائمة والمهدمة إثر المعركة لا تزال في أماكنها تبث بمنظرها الرعب في نفوس السكان، بينما لم يحرك أحد ساكنًا، إلا سرور عبد الكريم الحسيني، الممرضة والمُسعفة العراقية ذات الـ 23 عاما، فقد تحدت هذه الفتاة الموصلية كل المخاوف، وقررت أن تحاربها على طريقتها بالقيام بدور ليس من مسئوليتها، فأسست فريقًا تطوعيًا يحمل اسم "السرور"، تكمن مسئوليته الأساسية في رفع الجثث من أزقة وشوارع مدينة الموصل، مدينتها الأبية.
فريق السرور التطوعى
تحكى سرور عن دوافعها الأساسية للتفكير في هذه المهمة التطوعية الصعبة: "لم أتحمل رؤية آلاف الجثث ملقاة في كل مكان من حولى، لم تتحمل نفسي رؤيتها وهى منتشرة بمناظرها البشعة في أراضى المنطقة القديمة بالموصل وداخل المنازل المهدمة، هذا المنظر دفعنى للتفكير في ضرورة اتخاذ خطوة إيجابية نحو مدينتي قبيل حلول الصيف، فجثث كثيرة منتشرة في المدينة في هذا الفصل يعني إلى جانب المنظر الذي لا يُحتمل، أمراض وأوبئة".
سرور الحسيني أثناء عملها التطوعى لرفع الجثث من الموصل
كان العراق قد أعلن في 10 يوليو عام 2017 عن تحرير الموصل، ثانى أكبر مدن البلاد، بالكامل من قبضة تنظيم داعش الذي أعلن عن دولته، دولة الخلافة الإسلامية، في يونيو 2014 من مسجد النورى الكبير في مدينة الموصل التي اعتبرها التنظيم عاصمة له، وشارك في عملية التحرير التي استمرت نحو تسعة أشهر، كل من قوات الجيش والشرطة العراقية مع مليشيات الحشد الشعبي، وسلاح الطيران الأمريكي.
ووفقًا لبعض التقارير العراقية، فإن تنظيم داعش قد خسر في المدينة القديمة والساحل الأيمن من الموصل خلال المعركة نحو 1944 عنصرًا من عناصره، وتمكنت قوات الشرطة العراقية من تفكيك 8 منازل فخخها التنظيم، ونحو 71 حزامًا ناسفًا، وتفكيك أكثر من 250 عبوة ناسفة، بينما أشار بيان عراقى صادر عن مجلس محافظة نينوي العراقية إلى أن عدد المدنيين الذين استشهدوا خلال عملية تحرير المدينة بلغ 2600 شهيد.
أنقاض الجامع النورى الكبير بعد انتهاء معركة تحرير الموصل
بدأ العمل الفعلي لفريق السرور في نوفمبر 2017 في الساحل الأيمن من الموصل، أي بعد نحو 4 أشهر من انتهاء معركة التحرير، كان الفريق في البداية مكونًا من 6 أفراد غير مدربين ولكنهم مؤمنين بما يفعلونه لصالح بلادهم، وكان العمل شاقًا، فالجثث كثيرة وفى كل مكان من حولهم، وبعضها كان ممزقًا، وهناك أعضاء بلا جسد وملابس صبغتها الدماء بلونها القرمزى، ولكن مع الوقت اتسع نطاق الفريق حتى ضم نحو 30 فردًا من الجنسين.
الفريق يرفع إحدى الجثث
وبين رائحة الموت المنتشرة في الأرجاء ثمة الكثير من المخاطر والصعاب، تحكى سرور عن بعضها: " الصعاب التي تواجهنا كثيرة وعلى رأسها الطريق، فهو وعر للغاية وغير مفتوح، فضلًا عن مخاطر السقوط من المرتفعات في حال انتشال بعض الجثث من منطقة مرتفعة، والعرقلة من قبل بعض الجهات الحكومية والأمنية، أما الجثث المفخخة والأحزمة الناسفة التي لم تنفجر بعد فقصة أخرى، وخطورتها الأكبر أنها منتشرة في كل مكان، ولن أنسى حينما تفجر صاعق في أعضاء فريقي وأصيب بعضهم بسببه أثناء عملنا، ولن أنسى أيضًا حينما دخلت في إحدى الغرف الصغيرة ووجدت بداخلها 150 جثة مكدسة فوق بعضها البعض".
الصعاب التي تواجهنا كثيرة وعلى رأسها الطريق، فهو وعر للغاية وغير مفتوح
أعداد الجثث التي انتشلها فريق السرور حتى الآن تبلغ نحو 1350 جثة، وتؤكد سرور أنه كان يصعب على الحملة في كثير من الأحيان التمييز بين جثث الدواعش والمدنيين خاصة الأطفال، فطول المدة منذ وفاة هؤلاء الأشخاص ومحاولة رفع جثثهم كفيلة أن تُسرع من عملية تلاشى الملامح، واختفائها، فضًلا عن انتشار الجثث الممزقة والأعضاء بلا أجساد، وعن مصير الجثث بعد رفعها تؤكد سرور " نحن نجمع الجثث ونسلمها للطب العدلى والبلدية فيذهبون بها للطمر الصحى في منطقة السحاجى بالموصل".
فريق السرور مع بعض الجثث المنتشلة
لم تكن هذه هي التجربة الأولى لسرور في عالم التطوع من أجل بلادها، فقد كانت أول امرأة تتطوع في مقدمة المعارك خلال عملية تحرير الموصل، وقدمت كافة جهودها لإنقاذ الجرحى خاصة المدنيين، وعن عملها هذا تقول: " أنا أؤمن أننى لست أفضل من الشهداء الذين ضحوا من أجلنا.. وأؤمن أن المناظر الدامية التي رأيتها ولا زلت أراها أهون مما رأيناه وعايشناه خلال فترة وجود داعش".
أسرة سرور كانت خير داعم لها، ساندتها وشجعتها على هذا العمل التطوعى الشاق، وعن هذا الدعم تحكى سرور: " في اعتقاد أسرتى، إنسانيتي وما أقوم به من أجل مدينتي أكبر انتقام من داعش، خاصة بعد استشهاد شقيقتي خلال العمليات، وكان والدى أحد أبرز الداعمين لى قبل أن يتوفاه الله في بدايات عمل الحملة إثر نوبة قلبية من فرط الحزن على رحيل شقيقتي، أما زوجى فهو سند لى وأحد مؤسسي الفريق ويساعدنى في العمل".
سرور الحسيني أثناء العمل
ينقسم رأى المجتمع حول سرور وفريقها وما يقومون به من عمل تطوعى، فالبعض يراها وفريقها فخرًا للمدينة وقدوة، والبعض الآخر يوجه بعض الانتقادات، وعن اعتبار البعض بأن ما تقوم به قد يبدو صعبًا على أنثى، تقول سرور بحزم: "لا لم يكن صعبًا، فدور المرأة مهم، ولقد أثبت بعملى أن دورها أقوى من دور الرجل، ونحن ملزمين كلا الجنسين أن نُعيد مدينتنا".
شاب وفتاة من الفريق يتعاونان في رفع إحدى الجثث
" تحتاج الحملة إلى 6 أشهر إضافية حتى يتم تطهير الموصل كليًا من جثث الدواعش، وأنا لن أتوقف إلا حينما تفرغ الموصل عن بكرة أبيها وتتحرر من جثث داعش كما تحررت من التنظيم وعناصره"، تقول سرور، التي تحلم أن تعود بلادها إلى سابق عهدها، وأن يعود مع عودة بهائها الأمان الذي فُقد عبر السنوات الماضية ليطرد الخوف الذي عشش في النفوس لسنوات وسنوات، وأن يُعيد أهل مدينتها أمجاد الماضى بأن يصبحوا من جديد يد واحدة تطهر البلاد من الطائفية، وأن يستعيد الإنسان إنسانيته، حينها فقط في رأيها ستعود الموصل أفضل مما كانت عليه، و"سنكن بأرقى ما يمكن"، كما تؤكد سرور.
سرور بين بعض أفراد فريقها