عاشت الست نعيمة شخلع
كان بطرس نيروز غالي باشا رئيس وزراء مصر في العقد الأول من القرن العشرين، قد جاوز المدى، وفقا لرؤية الكثيرين وقتها، في خيانة الأمة المصرية بناسها وترابها حتى تاريخها، فلقد صدق على الحكم الجائر بإعدام فلاحي دنشواي الأبرياء، الحكم الذي وصم كثيرا من المصريين بخيانة لم تمحها التوبة أو الندم أو حتى الزمن، خيانة نالت من فتحي زغلول شقيق الزعيم الأشهر سعد زغلول..
ولطخت أيضا تاريخ إبراهيم الهلباوي، فلاح مركز المحمودية بالبحيرة، الذي انحاز ضد أهله وناسه وترافع من أجل قتلهم طمعا في نيل رضا العسكري الإنجليزى، ثم بعد أن نبذه المصريون وضاقت عليه الأرض بما رحبت وتشرنقت عليه نفسه، لم يجد بُدا من الاستقالة بعدها بفترة من النيابة العامة كممثل إدعاء، ليُحاول التكفير عن خيانته بالعمل كمحامِ للدفاع عن المصريين!
لكن بطرس غالي لم يمتلك حتى روح الندم مثل شركائه في دم فلاحي دنشواي، كيان منتفخ زهوا وصلفا وغرورا وحماقة بخدمة الإنجليز والسعي وراء إرضائهم بشتى الطرق، فلقد وقع اتفاقا مع أسياده الإنجليز بمشاركة مصر في حكم السودان، وقبلها كان قد أصدر قانون المطبوعات الذي كانت بنوده تقضي بغلق أي صحيفة أو مطبوعة لا تسير وفق هواه، أو لا تروج لأسياده من عسكر الاحتلال الإنجليزي لمصر، ثم أراد أن يقدم فروض طاعة أكبر من ذلك فأعد مشروع قانون آخر بمد حق امتياز شركة قناة السويس للملاحة لمدة أربعين عاما أخرى تنتهي في عام 2008!
لم يجد الشاب الصيدلي المصري الأسمراني النحيل إبراهيم ناصف الورداني طريقة أخرى للتخلص من خيانات بطرس غالي، والحفاظ على مقدرات الدولة المصرية غير الإقدام على اغتيال بطرس، فتربص له في يوم العاشر من فبراير عام 1910 أما وزارة الحقانية (العدل) وأطلق عليه ست رصاصات أردته قتيلا في الحال!
ورغم رفض مفتي الديار وقتها التصديق على الحكم بإعدام الشاب المصري النابه الذي صار بطلا في عيون عموم المصريين، إلا أن المحكمة قررت تنفيذ الحكم بإعدامه في 18 مايو 1910.. كان إبراهيم الوردانى يعمل بالصيدلية، ومن أسرة متوسطة الحال استطاعت أن ترسله لدراسة الصيدلة في سويسرا والكيمياء في إنجلترا، إلا أنه لم يغترب نفسيا وسلوكيا، ولم تنل الغربة من انتمائه وهويته وعشقه للتراب المصري، ضحى بكل ما سعى من أجله وهو شاب ناجح في مقتبل العمر ليتخلص ممن آمن بخيانته لوطنه وأهله وأرضه.
لذا كان الحزنُ عظيما جدا بين المصريين من مختلف الطوائف، لدرجة أن الفنانة أو (الصييطة) بلغة زمانها، الست نعيمة شخلع، أعدت أغنية خصيصا لهذه المناسبة الحزينة، وما زالت تلك الأغنية، حتى بعد تعديل كلماتها على يد الشاعر مجدي نجيب في الستينيات، تفوح بروح الحزن النبيل والشجن المتسامي، خاصة بعدما أعاد صياغتها موسيقيا الفذ بليغ حمدي، و(دوزنها) على مقام البياتي، الذي صادف رقة صوت المرحومة شادية وتناغم معه، إنها رائعته (قولوا لعين الشمس ما تحماشي).
قولول لعين الشمس ما تحماش.. لأحسن غزال البر صابح ماشي!
تلك كانت الكلمات الأصلية للأغنية التي أعدتها الست نعيمة مع تختها البسيط لغنائها ليلة تنفيذ الحكم بإعدام إبراهيم.. كلمات بسيطة نعم، لكنها حانية وإنسانية وراقية وصادقة والأهم أنها تشي بكثير من الروح الوطنية التي تنبعث عندما يلتف الشعب حول رمز حتى إن كان شابا صغيرا، رأى من حسبه خائنا يعيث فسادا وتفريطا في وطنه..
رحم الله الورداني ورحم الست نعيمة شخلع التي علمت الكثيرين كيف تكون وطنيا وصادقا حتى وإن كنت بسيطا في تعليمك ومحدودا في ثقافتك.. الأهم أن تكون إنسانا، فذكر الست نعيمة فاق ذكر إبراهيم الهلباوي جلاد الأبرياء في دنشواى الذي حاول الدفاع عن إبراهيم الورداني، حتى يكفر عن خطيئته في حق من تسبب في إعدامهم بغير ذنب من قبل، إلا أن الجميع لم يذكره بكلمة خير..
فقط تذكرته نقابة المحامين في تسعينيات نفس القرن وكرمت اسمه ضمن أفضل رجالها في القرن العشرين وأول نقيب لها في عام 19012!
Fotuheng@gmail.com