رئيس التحرير
عصام كامل

حق الشعب.. ضد الشعب


لأن المهندس مصطفى مدبولي اختلط عليه الأمر، ولم يفرق بين المهارة والتجارة، فقد استغل وجود المهندس شريف إسماعيل خارج البلاد، وصاغ لائحة تنفيذية مجحفة للقانون ١٤٤ لسنة ٢٠١٧م، ووقعها بليل ونشرها في الجريدة الرسمية وشرع في مطاردة الناس.. طارد من زرع، وطارد من صنع، وطارد من بنى دارًا تأوي عياله عندما غابت الدولة عن الآباء والعيال فلم يجد من فعلته إلا كل شلل بعد أن أصبحت الأرض تجارة لا تنمية.


الأمثلة على الإجحاف أكثر من أن تعد، ويكفي أن تكون حصيلة التقنين طوال هذه الفترة منحصرة في أربعة مليارات جنيه فقط، حيث هرب الناس من مقصلة اللائحة التنفيذية إلى القضاء، والقضاء أحباله أطول من عمر البشر في بلادنا.

تحول وزير الإسكان إلى سمسار أراضٍ، وأصبحت الأرض غاية لا وسيلة، فمن زرع أرضًا منذ سنوات وجد نفسه أمام مطالبات بحق انتفاع قد يفوق ثمن الأرض نفسه.. تجاهل مدبولي في لائحته أن الأرض واحدة من وسائل التنمية، وبيعها ليس غاية في حد ذاته وتناسى في غمرة وعوده بتوفير سيولة للدولة أن الناس هي الدولة، وأن مشكلة مصر ليست في مليون فدان أو عشرة ملايين من الأفدنة، وصلت يد المواطنين إليها.. مشكلة مصر في ٢٣٠ مليون فدان يسكنها الفراغ.

السيد وزير الإسكان تعامل مع المواطنين بمنطق القذافي، شاهرا سلاح الدولة، وشعار حق الشعب في وجه الجميع، مخاطبًا الناس كل الناس: من أنتم؟ والناس بطبيعة الحال وجدت نفسها دون رغبة منها في مواجهة الدولة، وكأن الدولة كيان ينفصل عن الناس، أو يواجه الناس، وزاد الطين بلة أن وزير الإسكان وضع غلافًا براقًا لمعركته ضد الجميع، وهو شعار «حق الشعب» دون أن يدري أنه بالفعل والمنطق حق ضد الشعب.

مصريون ذهبوا إلى الصحاري الواسعة، دقوا الآبار وشقوا الطرق، نثروا البذور ومعها حبات العرق، زرعوا أرضًا تحت شعار الأرض لمن يزرعها، فكانت الطامة الكبرى أن خرج عليهم وزير من الحكومة يعاقبهم على ما فعلوه، ليبتاع لهم أرضهم من جديد وبسعر اليوم.

الوزير الذي أدمن التكييف والمكاتب الفارهة لا يعلم عن الصحارى شيئا، ولا يعرف كيف كانت الدولة تبيع سعر متر الأرض على السواحل الخلابة بدولار للمصري وللأجنبي، وهو سعر بالمناسبة جيد للدولة في حال قيام هذه الكيانات بالتعمير والبناء وزرع الأرض بالخير سياحيًا كان أو زراعيًا، فالأهم ألا تبقى الأرض موحشة لا يسكنها إلا الفراغ.

ظلت سيناء تعاني الفراغ إلا من بعض سواحلها؛ لأن الدولة أرادت ذلك، ولما استفاقت مع السيسي بدأت تزرع الأرض مشروعات لو كنا جادين منذ تحريرها ما وجد الإرهابيون لأنفسهم موضع قدم بيننا، ولما وجدت قوى الشيطان مكانًا لها على الأرض المقدسة، بدا وزير الإسكان تاجرا ماهرا ولكنه يتاجر في الفراغ، يعيد تسكين الفراغ في الأرض التي كانت موحشة، ثم أصبحت سكنا للناس عندما لم يجد الناس من يهتم بسكنهم!!

لم يدرك وزير الإسكان أن الشعب يسبق الحكومة منذ سنوات، غابت الدولة فحضر الشعب، صحيح حضر اللصوص أيضًا، ولكن الشعب كله ليس لصوصا كما يتعامل معهم مصطفى مدبولي، ظهرت العشوائيات لأن الدولة لم تكن منظمة ولم تضع منظومة، جار اللصوص على المياه الجوفية وزرعوا أرضًا بملاعب الجولف، وتركتهم الدولة وعندما أرادت محاسبتهم أخذت العاطل بالباطل.

ظن مدبولي أن وصول سعر متر الأرض إلى عدة آلاف من الجنيهات هو أحد أهم إنجازاته، دون أن يتابع إعلانات العقارات التي تسر الناظرين بالإعلان عن شقق من العيار الثقيل عندما تلقى على سمع الناس أن السعر مفاجأة، سعر يبدو بالملايين، لا يدرك وزير الإسكان أنه قضى على أحلام ملح الأرض في مسكن أو مزرعة أو متجر أو مصنع صغير أو ورشة يقتاتون منها.. لم يعد العصر ملائمًا إلا للتجار والسماسرة وما دونهم يبحث عن وطن آخر.

في الوقت الذي طارد فيه مصطفى مدبولي شعب مصر كانت هناك مؤسسات محترمة تمهد الأرض وتمنحها للشباب وللشركات ولرجال الأعمال بأسعار أقل من عُشر أسعار أرض مدبولي، فبدا الأمر باعتباره انفصاما في مؤسسات الدولة، فإن خاطبته بالمنطق والقانون والظروف فإن إجابته لن تخرج عن قوله: إن هناك أجهزة رقابية تتابع كل شيء، وساعتها لن تجد أمامك إلا أن تقول "حسبنا الله ونعم الوكيل".
الجريدة الرسمية