تحويشة المعروف
ظلت أمى رحمها الله، مريضة بمرض السكر المزمن، ولازمها ما يقرب من 45 عاما، ودخلت بسببه في مشكلات صحية كثيرة، بل وصعبة للغاية، ومع ذلك كانت نفسها تهفو لنوع معين من البسكويت "المسكّر"، تأكله خلسة دون علمى أنا وأبي وأخوتى، حتى لا نعنفها بسبب المرض، وكانت رغم قلة وزنها، وعدم شراهتها للطعام تشترى أكثر من "باكو"، وتخفيه عنا، مخافة أن نمنعه عنها يوما ما، أو ألا تجده في الأسواق.
كانت قناعة أمى أنه طالما يوجد الإنسولين، فلا ضرر مطلقا من تناول البسكويت، رغم أن طبيعة طعامها اليومى العادى، كانت خفيفة جدا، بل ربما لا تأكل أحيانا.
عرف أبي بالأمر وأبلغنى أنا وإخوتى أنه من الضرورى أن نتعامل مع رغبة أمى المريضة بالسكر، في تناول البسكويت، بنوع من الذكاء حتى لا تصاب نفسيتها في مقتل لو تعاملنا مع هذا الموقف بنوع من العنترية والقسوة.
ومن ثم اتفقنا مع أمى على التقنين "اتفاق جنتلمان"، بتناول مقدار معين من البسكويت لا يضرها، وتم هذا الاتفاق بهدوء وإقناع، دون صخب أو صراخ أو ضجيج، فلم نشعرها بأى نوع من التحكم فيها وفى تصرفاتها، بل نحن ومهما كبرنا وأصبحنا أشداء أطفالها الصغار، ولها الحق المطلق في أن تدوس رقابنا بأقدامها ولن نشكو أو نتألم أو نتأفف.
مرت الأيام كثيرة، وأصبت أنا أيضا بمرض السكر، وأصبح لزاما على أيضا الالتزام المطلق في نوعيات طعامى وشرابي، فيما عدا إدمانى لبعض أنواع البسكويت أيضا!، فضلا عن أصناف من الشيبسي والمقرمشات.
وتولى أبنائي مهمة "التقنين" بلا قسوة، على طريقة الإخفاء الجزئي لمكيفاتى البسيطة، فابنتى تتولى منعى من تناول أكثر من قطعة بسكويت واحدة في اليوم احترامًا لصحتى، بينما يتولى ابنى تقنين عدد أكواب القهوة التي تقلصت من أربعة أكواب يوميا، إلى اثنين فقط.
والشاهد من هذا، أننا حقيقة، لم نكن نبر أمهاتنا وآبائنا، قدر ما كنا نبر أنفسنا أولا، بتقديم "سبت البر"، لنستقبل فيما بعد "أحد المعروف"، فندخر أموالا قوامها الإحسان للوالدين، سيكون لها نفع في الغد القريب، عندما نأخذ أدوارنا المنطقية في الحياة، ونحل محلهم، وينظر إلينا أبناؤنا على أننا "الحاج" و"الحاجة".
هذه الأموال التي ادخرناها أو نزعم أننا ادخرناها إلى يوم الوقت المعلوم، محصلة دعاء الوالدين، مستدعيا للذاكرة كل هذا، وأنا أنظر إلى نفسي وإلى ما أنتظره من أولادى في شبابهم، إن قدر الله لى ولهم العمر، حتى أكون في موضع الكبر والشيخوخة، محتاجا إلى كلمة طيبة ومعاملة "خاصة جدا"، ونظرة عطف ولين ورحمة منهم تشعرنى أن زرعتى فيهم التي ألقيت بذور ثمارها الأولى بالبر بأمى وأبي، لم تذهب سدي، وأنهم سيكونون السند والعون والأمان في غد "واهن العظام".
لولا آباؤكم وأمهاتكم ما كانت بركات ونفحات كثيرة في حياتكم لن تعدوها أو تحصوها، وإن أحببتم فسيعجز مداد القلم عن الوفاء بالدين، وسطر آلاف الأسطر في هذا.
لا أدعى حكمة أو تفضلا، ولكن من مجرب فقد والديه، وفقد معهما إحساس الأمان والحماية، إحساس اللين والرحمة والرفق، استمتع بأمك وأبيك وهم على قمة حياتك، حتى لو كانا يعنفانك، أو يتصرفان بشكل لا ترغبه أو، أو، أو، أو، وتذكر أن كل الأشياء التي تسئ لهما فيها، ستكون كابوسا جاثما على أنفاسك ما حييت.
ليس شرطا أن يعاملك أولادك هكذا ـ وهو أيضا جزء من رد الدين ـ ولكن شعور الندم قاتل، وسيداهمك مع كل مشكلة تواجهك في حياتك، لأنك وقتها لن تجد من تذهب إليه شاكيا حالك ويستمع إليك باهتمام بالغ بل ويساعدك ويمد لك يده سواهما، ولكن سيكون بعد فوات الأوان.
الندم على أي لحظة مسيئة لهما، مهينة لكرامتهما، أي نبرة صوت عالية تجاههما، ستجعلك ربما تلطم وجهك وتبصق على ذاتك في المرآة، تعنيفا، وتحقيرا، من نفسك، ودعاء إلى الله أن تذهب إلى جوارهما، أو يعودا إلى الحياة، من أجل أن تمحو هذه "الأقذار" التي ارتكبتها في حقهما، وتبدأ صفحة جديدة من الحب والبر واللطف والرفق بهما.
بدأوا أطفالا ثم شبابا ثم أشداء ثم عادوا أطفالا مرة أخرى، فهلا كنا رحماء بهم ونستوعب أنهم يعيشون في زمن غير زمانهم وسجلات حياتهم كلها متعلقة بالماضي.
أساليب الرفق وإدخال البهجة والسرور على كبار السن كثيرة، وقصص البر بالآباء والأمهات أكثر، وأيضا حوادث العقوق ما أغباها وأقساها وأكثرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ".