قبل أن يصل قطارنا إلى الإسكندرية!
في مصر.. ولأنها بلد العجائب، يجب أن تموت أولًا حتى تلمح في عيون كثيرين المحبة الخالصة لك، يذرفون الدموع لأنك قررت وضع "نقطة" في آخر سطر لحياتك.. قررت أن تكون من اليوم "عزيزًا"، بعد سنوات قضيتها في الظل، تراقب شاشة هاتفك المحمول، لعل أحدهم يتذكرك بمكالمة غير متوقعة، أو موعد لم تضعه في حساباتك.. تنتظر الأعياد والمواسم والمناسبات، لتتلقى التهانى الباردة، وتردها أكثر برودًا.
عزيزى القارئ..
هل لحقت بقطار "التعازي" الذي انطلق ليلة أمس الأول، بعدما قرأت –ضع ألف خط تحت قرأت- خبر رحيل، الكاتب العظيم الدكتور أحمد خالد توفيق؟ وهو رحيل وليس وفاة؛ لأن من يكتب لا يموت.. هل توقفت قليلًا أمام فاجعة الموت، أم أنك لم تشأ تبديد اللحظات تلك فقررت الإسراع والدخول إلى محرك البحث العالمي "جوجل" لتعرف شيئًا عن الفقيد يساعدك وأنت تكتب "بوست" حزينًا تنعي فيه الراحل وتعدد حسناته وتترحم على أيامه وتلعن بقية الأيام التي لن يكون حاضرًا فيها؟
صراحة.. هل وجدت لديك من الشجاعة ما يكفى أن تضع نفسك أمامك.. تنظر إليها باستحقار تستحقه؛ لأنها لا تعرف– دون مساعدة من جوجل- من هو الدكتور أحمد خالد توفيق؟ هل تراجعت خطوات للوراء قبل أن تدلي بدلوك في الأمر، تكتب البوست، تنتظر هطول أمطار "اللايكات" تحصى عددها، تقارن بينها وبين مثيلاتها التي حصل عليها صديق لك كان أكثر براعة في إظهار الحزن المزيف؟
الذين يعرفون القليل عن تاريخ الدكتور أحمد خالد توفيق، وتحديدًا تاريخه الصحى، يدركون جيدًا أنه –وحسبما صرح أكثر من مرة- رجل ينتظر الموت، يعانى من أزمة في القلب الذي توقف منذ سبعة أعوام، وقتها قال: "لم أر شيئًا لحظة توقف قلبي.. لم ألمح خيط ضوء في نهاية الممر، لم أجدنى وقد تركت جسدي ممددًا، لم ألمح شيئًا لأحكيه لكم.. كل ما في الأمر أن الفيلم توقف قليلًا ثم عاود الدوران، لكننى أدركت بعدما تلقيت الصدمات الكهربائية أن قطار رحلتى أوشك على الوصول إلى محطته الأخيرة، أو كما قال الكاتب نجيب محفوظ، القطار وصل إلى محطة سيدى جابر.. وقريبًا سيصل إلى الإسكندرية، وأنا في انتظار وصولى إلى الإسكندرية".
عندما كان "الدكتور أحمد"، في محطة سيدى جابر، لماذا لم تكتب عنه؟ لماذا لم تفرغ أمامه مشاعرك الجياشة وتظهر له محبتك الخالصة؟ هل تدرى أنك لو فعلت هذا كنت ستسعد قلبه المرهق قليلًا بفعل المرض، ستمنحه لحظة سعادة غير متوقعة، موعدًا مع الفرح لم يتم ترتيبه؟ هل كنت تدري أن دقيقة أخرى كان سينعم بها جسده قبل أن ينهار بعدما توقف قلبه؟ لكن لأنك تعيش في مصر، فبالقطع لا تتقن سوى "رثاء الأموات"، البكاء على اللحظات التي انتهت.. و"الدبدبة" على الأرض بعد فوات الأوان.. لا تعرف أن تظهر محبتك إلا بعد أن ينزل الستار، ويربح القدر معركته التي اعتاد أن يربحها دائمًا.
من جانبى.. لا أؤمن أن الأموات يسمعوننا.. لا أرى أنه من المنطق أن يصعد أحدهم إلى السماء، إلى جوار ربه، ويفضل ترك كل هذا، لينزل مرة أخرى إلى الأرض، يحصى "اللايكات" التي يحصل عليها أحباؤه المزيفون بعدما يذرفون دموعًا كاذبة ويكتبون كلمات "جوفاء" لا ينتظرون منها إلا "لايكات" وتفاعلات ومجموعة "إيموشنات" حمقاء.
الموت.. بالفعل يوجع الأحياء.. لكن أي أحياء؟ هل يوجع الذين يمرون بجوارك دون إلقاء التحية ولو حتى بنظرة؟ هل يوجع من قرروا المغادرة سريعًا من حياتك؛ لأنك لم تكن "زى الكتاب ما بيقول".. الموت لا يوجع هؤلاء، لكنه يغتال –كل لحظة- أصدقاء اللحظة الصعبة، الذكريات الكثيرة، الموت لا يوجع إلا الذين يقتطع الفراق جزءًا من روحهم بعدما يقرر، بكل ديكتاتورية، أن يأخذ منهم عزيزًا، أن يطفئ الأنوار في ركن من أركان حياتهم.. الموت يوجع أصحاب الزوايا المظلمة، الذين لا يمتلكون الشجاعة للكتابة أو النعي، أو حتى تقبل العزاء.
أظن –وليس كل الظن إثم- أنه هناك من هو– في اللحظة الحالية- أحق بـ"كلمات المحبة" من الدكتور أحمد خالد توفيق، من لا يزال على قيد الحياة، من يحلم بـ"طبطبة" منك، قبل أن يلحق بـ"توفيق"، من ينتظرك لتعبر له عن محبتك وجهًا لوجه، وليس من خلال شاشة بيضاء "تسر الأغبياء"، وحروف سوداء مشوهة تلقى بها وتضغط "مشاركة" وتنتظر على أحر من الجمر "اللايكات".
أخيرًا.. هل يجب أن يموت الإنسان ليعرف أنه كان هناك من يحبه؟.. هل يجب أن يتألم وحيدًا.. يتوجع منفردًا.. يكون فريسة سهلة لوحش التجاهل؟ حتى نقول له "نحن حبك".. وقتها سنكون كمن يمارس الحب مع "جثة".. هل جربت ممارسة الحب مع جثة؟!